الكثير من الأفلام التي تتعلق بحياة الأدباء يتناول الأدب بعمق ونفاذ بصيرة يفتقده الكثير من الأدباء عندما يتحدثون عن كتابتهم.
من بين تلك الأفلام، الفلم الذي يتناول حياة جي دي سالينجر «ثائر في حقل الشوفان».
والعنوان يتناص كما هو واضح مع عنوان روايته الوحيدة الشهيرة «الحارس في حقل الشوفان».
الفلم مقتبس عن كتاب كينيث سلاوينسكي عن حياة الكاتب الأمريكي الأكثر شهرة والأكثر خفاءً في القرن العشرين.
وفيه نشاهد أستاذ الكتابة الإبداعية ويت بورنيت، يواصل رفض قصص سالينجر واحدة بعد أخرى، كما نرى الكاتب يغذي سلة المهملات بعشرات الصفحات.
وعندما قرر الأستاذ أن الوقت حان لينشر قصة لتلميذه، نشر له القصة الأولى، مما أثار دهشة سالينجر، فقال له المعلم: «كُنت أدربك على تقبل أن تكون مرفوضًا».
الدرس الذي أراد الأستاذ لتلميذه أن يتعلمه هو أن يكون قادرًا على تلقي الرفض طوال حياته وألا يُقلع عن الكتابة مع ذلك.
بصلابته الداخلية، وبمساعدة من درس معلمه، صمد سالينجر أمام طلبات الناشرين بإدخال بعض التعديلات على الرواية كي تكون مقبولة ومنطقية من وجهة نظر القراء.
أحدهم صرخ في وجهه: «قل لي، هل تريد أن تطبع أم تنشر روايتك؟!».
بالطبع الفرق واضح، بين أن يستخدم الكاتب دار النشر كمطبعة لطباعة ما كتبه كما هو، وبين أن يستمع إلى شروط الناشر التي يضعها من خبرته في صناعة النشر ومتطلبات تسويق الرواية، مع ذلك خضع سالينجر في أقل الحدود لمتطلبات السوق الأدبي، وكان منطقه هو الصواب، وأحدثت الرواية دويًّا لم يحلم به الناشر.
تبدو سيرة سالينجر مع الكتابة نادرة المثال، بما فيها عزلته حتى التسعين، لكنها السيرة المثالية للكاتب في أي زمان ومكان.
تلك الصلابة مطلوبة لكاتب اليوم بأكثر مما كانت مطلوبة في الأربعينيات من القرن العشرين. هناك أشياء كثيرة تغيرت في الواقع الأدبي وبات الكاتب الحقيقي يواجه تحدي انتصار النموذج الأمريكي في صناعة الأحلام.
«نعم..نستطيع» شعار تتخذه مؤسسات مالية وبنوك أمريكية كإجابة على سؤال لم يسأله زبونها.
وللأسف لم تبق هذه الاستطاعة المطلقة بعيدة عن أكاديميات وورش تعليم الكتابة الإبداعية الأمريكية.
«نعم تستطيع» هي إجابة المدرب التي تسبق سؤال المتدرب في ورش الكتابة الأمريكية، حيث تتفاقم ظاهرة التعامل مع الكتابة بوصفها علمًا يستطيع الطالب أن يتفوق فيه ويصبح كاتبًا.
هكذا صارت الورش والكتب حول العملية الإبداعية أقرب إلى كتب التنمية الذاتية. تتعامل مع المتدرب والقارئ الذي يريد أن يعرف شيئًا عن الكتابة بوصفه زبونًا.
والزبون يجب أن يخرج راضيًا ويشعر بأنه أخذ شيئًا مقابل ما دفعه.
هل تحب أن تكون كاتبًا؟ ستصبح كاتبًا. لا تخف! أنت لا تعرف كيف تكتب جملة سليمة نحويًّا وإملائيًّا؟ لا تخف ستتعلم مع الوقت.
ليست لديك فكرة كلية عن روايتك؟ اكتب مشهدًا وستجد المشهد التالي على سن قلمك!
لا يحتاج المتطلع إلى الكتابة سوى الرغبة وسوف يكون كاتبًا طبقًا لبائعي الأحلام، وسيمضي وقت طويل قبل أن يدرك أنه لم يمسك بيديه سوى الهواء.
ربما ينجز بعض الحكايات بقوة الثقة في الذات التي نالها من ورش انخرط فيها، ويطبع كتبًا يقرؤها جمهور جديد من القابضين على الهواء.
عندما سأل الأستاذ ويت تلميذه سالينجر: هل فكرت لماذا تكتب؟ أجابه: لأنني غاضب!
ينسى بائعو الأحلام أن ينبهوا زبائنهم أن الكتابة يلزمها هذا الغضب، ليست مجرد «رغبة» لكنها احتراق.
يحتاج الإنسان ولو إلى لهب شمعة بداخله لكي يصبح كاتبًا. يحتاج إلى عزلة صارت أصعب منالًا في عالم الاستعراض الذي نحياه.
عزت القمحاوي، كاتب وروائي مصري.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.