إطلالة

ثلاثية الثقافة الإنسانية

ثلاثية الثقافة الإنسانية

الفنون والعلوم والفلسفة محاور ثلاثة لحركة الوعي الإنساني وهو يرسم مدائن التحضر، فمن الصعب فصل هذه الخطوط أو إلغاء واحد منها، لأنها تندمج في جدائل متشابكة.

وهذا الوصل بين هذه المحاور يعني أن الثقافة بوسائطها المتنوعة تمنح مجتمعاتها نوعًا من التكامل، الذي يظهر في الارتقاء السلوكي في القول والفعل؛ ولا يتصور أحد أن العلوم وحدها يمكن أن تطوِّر الشعوب، فالجانب الذهني يعمل في مساحة متصلة تشمل الفنون والعلوم والفلسفة معًا.

وهذا التشابك يمكن أن نلحظه في بعض السرديات المعاصرة، كما نجد في رواية (مليون نافذة) للأديب الأسترالي المعاصر، جيرالد مرنين، فالراوي هنا يبدو عالمًا بفن القَصَص وطرائقه وتفاصيله، لدرجة أنه يتكلم عن اللقطة الواحدة بعشرات الأساليب. ومعنى ذلك أن القصة التي نراها من منظور ما نستطيع أن نتصورها من منظور آخر أو منظورات كثيرة، تمامًا مثلما نجد الساعة في المطارات تشير هنا إلى الثانية ظهرًا مثلًا، ولكنها في مكان آخر قد تزيد أو تقل دقائق أو ساعات.

ومثلما تحاول العلوم إيجاد مجموعة العناصر التي تشترك فيها الظواهر الطبيعية، فإن الفنون والآداب تحاول أن تكتشف المشتركات العميقة في المشاعر والأفكار الإنسانية مع اختلاف الهويات والأقاليم واللغات والعصور أيضًا.
فالرحالة الكبار، أمثال ابن بطوطة وابن جبير وماركو بولو، استطاعوا بالعين اللاقطة التي ترى غرابة المألوف أن يضعوا أمامنا الأنماط الثقافية لعوالم بعيدة عن عواصمهم، واعتمد العالم على سرديات الرحلة تلك في تحديد كثير من أشكال الحياة ومعتقدات البشر.

إن الحياة شديدة التنوع، ومع ذلك فالإنسان هو الإنسان، وما يمكن أن تجده في روايات الأمريكيَين، فوكنر وهيمنغواي، قد تجد ما يماثله عند نجيب محفوظ أو عبدالرحمن منيف.

ولا تتصوَّر أن رواية مثل (البحث عن الزمن المفقود)، للفرنسي مارسيل بروست، لن يفهمها سوى الفرنسيون، فمن الممكن أن يعايشها قارئ في كمبوديا كما لو كان يجلس مع بروست نفسه، ويشعر به وهو يصف تفاصيل الحياة الفرنسية.

وفي اللحظة التي تقرأ فيها هذا المقال، صديقي الكريم، هناك ملايين البشر، بعضهم يقرأ مثلك، فيما يستمع آخرون إلى الموسيقى، أو يعملون في المصانع، أو يتابعون دروس التعليم عن بُعد، أو يشترون هدايا لأقاربهم. والمهم هنا هو أن ندرك الآخر الذي بداخلنا والمحيط بنا والبعيد عنا، فلن نسعد بإنسانيتنا إلا إذا كانت لنا القدرة على تصور مشاعر ذلك الآخر وطريقته في التعامل مع الحياة.

ولا يعني هذا أن نتبنى تصرفات الآخرين كلها، فهذا الأمر يمحو الشخصية، والآخر لن يريدك إذا كنت نسخة منه، وإنما سيسعد بك إذا كنت تعرفه مع إدراكه لخصوصيتك. وهذا لا يمنع من وجود حالات اندماج ثقافي في بعض الأحيان، إذا كانت المكونات الروحية والذهنية على استعداد لذلك.

علي قطب، روائي مصري.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge