إطلالة

نافذةُ «أقرأ» وهبوب الذاكرة

نافذةُ «أقرأ» وهبوب الذاكرة

للذاكرة سطوة؛ تندلعُ في لحظةٍ ما وتتدفّق، فتنهالُ المَشاهد بكامل حضورها صوتًا وصورة وروائح وأضواء؛ مَشاهد كأنها الآن، لا تعرف كيف احتفظَتْ بها الذاكرة. ظلَّت هناك في خزانةٍ بعيدة محجوبةً حتى عن صاحبها مباغتةً إياه في نقطةِ تماسّ، أو عند ضغطة زر عفوًا من الاستعدادات أو اللقاءات، أو عند خطفةٍ بارقة أو عبورٍ خفيف لاسمٍ أو صورة، أو مجرّد هبوب رائحة، أو اندلاع أغنية عند إشارة مرور.

التماعاتٌ زاهرة، ظلالٌ قاتمة، كانت مخزونة ثم تفجّرت، ومعها رصيدها الهائل من المشاعر والانفعالات والعواطف والآراء والأحكام. صفحةٌ مطوية ينزُّ منها دمٌ قديم لم يزل حيًّا؛ جُرْحٌ نائم وآنَ له أن يستيقظ ويدفع بعكارته تصبغُ صفاءَ الساعات، فتحيلها كدرًا. يسعى المرء ما وسعته الحيلة وأسعفته المناورة أن يزيحها ويكشطَ غيومَ انزعاجه الداكنة عن سماء يومه. صفحة مخبوءة تطفر حاملةً فرَحَ اليوم وسعادته؛ نافذة مواتية تهبّ منها الأطايب التي لا تُسمّى لكنها تفعل فعْلَها في الروح وتستجيب لها الأعضاء.

وهذا حالي، شخصيًّا، بيومين ضافيين غامرين من الفرح والسعادة والانشراح أثناء حضوري في صرح «إثراء» بعضَ فعاليّات مهرجان الحفل الختامي لـ «أقرأ» (٢٤ ـ ٢٥ يونيو الماضي).

جمهور فَتِيٌّ شابّ يجتمع حول الكتاب، تنعقد صِلاتُه في ضوء محبة السطور وما يفيض منها بشائرَ تَعِدُ وتَفِي بحصادٍ قادم تتهيّأ له منذ الآن الأراضي الخصبة، والسقيا الملائمة، والهواءُ النَّضِر يسري متجدّدًا من جميع الجهات. «جمهورٌ» في أوّل العمر؛ وكم ترنّ كلمة «جمهور» بعذوبةٍ في الأذن، عندما يكون هذا الـ «جمهور» ساعيًا بعديده المتكاثر الرائع إلى «الكتاب» واحتفاليته المصاحبة؛ مشرق أنوار المبدعين والمفكّرين وزفاف القرّاء النابهين.

«جمهورٌ» عددٌ صلبٌ في مشروع الجيل القادم، تحصّنُهُ الثقافة والإعداد المبكّر لبناء التوجّهات وإرساء القيم وصياغة المعايير، بعيدًا عن البهرجة الاستهلاكية وفقاعاتها القشرية، المؤقّتة الهشّة الزائلة. يومانِ من «أقرأ»، يومانِ في «إثراء»؛ يومانِ من المثولِ في الجمال والحضور في نسيم القراءة/الكتاب، والتزوّد، أيضًا، من «معرض الكتبية» بطريقة أجمل المقايضات: «هاتِ وخُذ».

النسيم الذي انفتحَت له في ذاكرتي أبهى المسالك الخضراء النائية، عن زمنٍ موغل في البعيد؛ زمنٍ هائمٍ في مكتبات الأحساء: «الأهلية»، «التعاون»، «الفلاح»، «السعادة»، «الوطنية».. وواحدةٍ أخرى يغيب اسمها الآن أذكر أنها في «شارع الحداديد»؛ مكتبة صغيرة تأخذني الخطوات إليها قبل «ستيشن القرى». أعيّن عناوين للشراء أرجع إليها تباعًا لخالد محمد خالد، ولغادة السمان.. .. الذاكرة التي انفتحت عليَّ شعابُها في يومَي «أقرأ»، فغمرتني بهجةٌ مستعادة، يطمح فيها خريفي أن يكون دائمًا بين الكتب وبين الجيل القارئ؛ في جِدّةٍ لا تنطفئ.

 

عبدالله السفر، شاعر وناقد من السعودية.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge