إطلالة

ما يطلبه المتابعون

ما يطلبه المتابعون

المتتبع لتغيرات الساحة الثقافية مؤخرًا سيلاحظ حتمًا عودة قوية للقصيدة بشكلها التقليدي، أو ما يُعرف بالقصيدة العمودية، وقد أسهمت شبكات التواصل الاجتماعي في انتشار هذه القصيدة وأعادت لها مجدها وحضورها في المشهد الأدبي والثقافي، ونخص بالذكر «تويتر»، الذي فتح لها الأبواب وأعاد لها صدارتها في المشهد الثقافي لتصل إلى الناس وتكون في متناول أيديهم، ولتجتذب بدورها قراء جددًا من الشباب.

في التسعينيات الميلادية، وعلى مدى حوالي عشرين عامًا، تسيّدت قصيدة النثر المشهد الثقافي والأدبي في العالم العربي وكان حضورها مهيمنًا في المجلات الثقافية والأدبية والملاحق الثقافية في الصحف.

وكان يصعب نشر قصيدة عمودية في مجلة ثقافية حديثة أو في ملحق ثقافي في صحيفة يومية، حتى اقتصر نشرها على مجلات أدبية ليس لها انتشار واسع في تلك الفترة على مستوى الوطن العربي، وانسحب ذلك على شاعر القصيدة العمودية الذي كاد أن يخفت صوته وتضيق مساحة حضوره في الهامش؛ إلا إن شبكات التواصل الاجتماعي وما تمتلكه من «سماحة» ومن عدالة في إعطاء الحق للجميع في النشر سمحت لشاعر القصيدة العمودية أن يكون حاضرًا، بل وأن ينافس غيره، ويستعيد مجده ويؤكد وجوده وحضوره من خلال تويتر على نحو خاص كما أشرنا أعلاه، وساعد ذلك في تواصله مع مئات الآلاف يوميًّا، لا سيما بما يحظى به تويتر من شعبية لدى المثقفين والأدباء.

استطاعت القصيدة العمودية، بما تمتلكه من بعد تاريخي عميق، أن تتمركز مرة أخرى في المشهد الثقافي، فهي حاضرة ومتأصلة في الوجدان العربي، وتعبّر عن حالة اجتماعية وحاجة اجتماعية ووطنية أيضًا؛ فهي ليست ملكًا للشاعر وحده؛ فشاعر «القصيدة العمودية» لا يمكن أن ينعزل أو أن يكون وحده، لأن «الجماعة» لا تدعه وشأنه، فهي تلح عليه وتطلب منه أن يعبّر عنها، وأن يقول عنها ويقول لها.

شاعرٌ تنصت إليه الجماعة والقضية العامة والمناسبة الاجتماعية، بعد أن يكون قد أنصت إليها وفهمها واستوعبها. من هنا يأتي التفاعل مع عدد من أبيات من قصيدة عمودية تُنشر في تويتر، من إعجاب وتعليق وإعادة تغريد يؤدي إلى انتشارها بشكل كبير. وليس بالضرورة أن يكون من يعيد التغريدة أو يترك تعليقًا قد استوعب معنى الأبيات أو فهمها، بل هو يتفاعل معها محبة في الشاعر أو في الشعر، وأن تفاعله هذا هو حالة من «التفاخر الاجتماعي»، التي تضعه على الأقل على عتبة الثقافة، حتى وإن كان ذلك في محيطه الصغير.

هذا الفتح للقصيدة العمودية في تويتر أعطى الفرصة لشعراء غير معروفين في غير محيطهم وبين أصدقائهم أن يتجاوزوا دائرة المحلية وأن ينتشروا على مدى أوسع جغرافيًّا.

وربما أسهم ذلك في دعم تجربتهم الإبداعية وتقديم أنفسهم بشكل أفضل لدى متابعين يتكاثرون بشكل مستمر، وربما كان هذا الحضور كمينًا لبعض الشعراء بما يؤدي إلى الوقوع في فخ الثرثرة والتكرار لما يمنحه الحضور اليومي من نجومية ولمعان يعود في الأغلب بالنفع على الشاعر وليس على الشعر، حيث يحاول بعضهم أن يجد له مكانًا وحضورًا يوميًّا في شبكات التواصل، لكن ليس بطريقته هو بل بطريقة شبكات التواصل ونزولًا عند متطلبات ذائقتها، وتلبية لـ «ما يطلبه المتابعون» بتطويع أبيات شعرية وتطويع الشاعر نفسه للحظة التي يتطلبها الحدث أو المزاج العام.

 

جعفر عمران، إعلامي وقاص سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge