إطلالة

حنينٌ إلى أرامكو

حنينٌ إلى أرامكو

في أوائل الثمانينيات الماضية، تعرفتُ على زميل أمريكي، كان يعمل في إدارة الخدمات الحكومية التي كنت أعمل في قسم آخر منها.

كنت حارسًا للكتب (أمين مكتبة) فيما كان هو طابعًا ماهرًا يعمل بالقرب من مدير الإدارة، وكان يعْبر إلى المكتبة باحثًا عن كتب ما، وكنت أزوره في مكتبه لمامًا للتحادث معه، ومعرفة بعض أخبار الإدارة.

كان «رالف شيرمان» وهذا هو اسمه، على مقربة من التقاعد، لكن أكثر ما كان يقضّ ليله وهو يكوّم حقائب الرحيل، هو الإفراج عن آلته الطابعة، التي مضى على التصاقه بها قرابة ٢٥ عامًا.

الآلة القديمة تلك كانت مدموغة برقم خاص يحمل ملكية أرامكو، واتضح أن من العسير التنازل عنها.

وبعد طول مكاتبات وصلت إلى نائب الرئيس تم التنازل عن تلك الآلة بعد قائمة من المبرّرات والتوقيعات، وقُبل طلب شيرمان لاصطحاب آلته الكاتبة إلى بلاده، ولا زلت أذكر غيوم السعادة التي هطلت عليه في ذلك اليوم البهيج.

الحنين إلى أرامكو بعد أن تحلّ لحظة الرحيل عنها هو سنّة ثابتة، ونادرًا ما ينجو منها أحد، والحنين الذي أتحدث عنه ليس للمواد والآلات التي نستخدمها طويلًا فتصبح أقرب إلى كنز شخصي، ولكنه حنينٌ للزملاء والزميلات والأماكن والصباحات والاجتماعات الصاخبة كثيرًا والباردة أحيانًا.

حنينٌ لطاولات النشر والتحرير والصخب الذي يجري في القافلتين الشهرية والأسبوعية، حنينٌ لاصطحاب المصور في صباح ربيعي، والتوجه إلى السفانية أو الحوية أو رأس تنورة لكتابة استطلاعات صحفية تضيئها وجوه العاملين.

حنينٌ للروح الجماعية التي تقف وراء نجاح المشاريع الكبرى والصغرى على السواء. وحنينٌ باقٍ للقهوة الصباحية و«الدايننق هول» وفطور الخميس.

واستطرادًا فإن تلك القصص التي تُروى عن أن بعض المتقاعدين لا يُفطمون بسهولة عن العودة إلى مكاتب العمل وزملاء الوظيفة ومرافق الشركة لا ينبغي السخرية منها، فبعضها صحيح حتى وإن كتَم بعضهم هذا الاشتياق، وقد التقيت مرارًا برفاق سبقوني إلى تقاعدهم بسنوات لكنهم داوموا على وجبات الغداء والإفطار أحيانًا في المطاعم الشهيرة للشركة، حيث تسنح فرص اللقاء بأصدقاء العمر وإحياء بعض الذكريات التي تشكل طمأنينة لقلوبهم التي أضجرها الغياب القاسي.

ليس جديدًا أن أقول إن اسم أرامكو كثيرًا ما يغشى المجالس التي يرتادها موظفوها، وتتحول أحيانًا إلى حلبات صراع لا يفهم فيها سوى الضالعون في علوم أرامكو، وقد ينْفر منها بعض ضيوف المكان. وقد شاءت الصدف مؤخرًا أن أكون في أحد مسابح البحرين في محاولة لرفع معنويات حفيديّ قبل بدء السنة الدراسية، حين لمحتُ بضعة من شباب أرامكو وهم يحتلون ركنًا في المسبح لمراجعة أعمالهم اليومية، وقد تمنّيت عليهم أن يعتبروا رحلتهم الجماعية هذه ترفيهًا وهروبًا من ضغوط العمل التي تنتظرهم.

كل ما أقوله هنا لا ينفي أن بيئة الأعمال في أرامكو بيئة تنافسية وابتكارية وضاغطة، ولعل هذا بعض أسباب نبوغها وتميّزها كخزّان خبرات في صناعة الطاقة والإدارة والإنتاج بكل وجوهها، ونحن نعرف اليوم أن بعض تلك الطاقات التي انتقلت إلى مؤسسات الدولة قد أسهمت بخبراتها المرموقة في رفع كفاءتها وجعلت الحصاد أكثر انتشارًا واخضرارًا.

هذه رسالة حنين إلى زمن خصْب لن يمحى من القلب والذاكرة.

 

محمد الدميني، شاعر وكاتب سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge