إطلالة

أزمة إنسان التواصل

 أزمة إنسان التواصل

منذ أن ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي قبل سنوات، برزت على السطح سلوكيات جديدة، وأسئلة متجددة، لطبيعة هذه الوسائل، وتأثيرها في الإنسان، وسبل التعامل معها، وأشياء أخرى كثيرة، مثل تأثيرها على الأفكار والشخصيات، وأثرها على الأطفال وغير ذلك.

لقد مرّ بجيلنا والجيل الذي سبقنا زمنٌ مختلفٌ عن كثير من العصور، بفضل هذا التطور الهائل في التقنية والعلوم. كان الإنسان قديمًا يولد ويحيا عُمرَه كُلَّـه ويموت، دون أن تطرأ تغيرات كبيرة في محيطه المباشر؛ إذ يتوارث الأحفاد سيرة الأجداد، ولا تتبدل حياتهم إلا في ظروف محدودة، ونادرًا ما تكون هناك تحولات كبيرة في بنية المجتمع؛ فالتغيرات تكون لحالات فردية خاصة.

أما إنسان العصر الحديث فإنه يصحو كل يوم ليجدَ نفسَه في قلب العالم، متغيرًا كل ساعة، مواكبًا كلّ ما يستجد من الأحداث والأخبار، فيعرف الحدث في شيكاغو وشنغهاي بنفس الوقت الذي يعرفه فيه أهل هذه المدن!

هناك من المفكرين من يرى أن وسائل التواصل الحديثة تستخدمنا قبل أن نستخدمها، نتصور أننا مسيطرون عليها، والعكس هو الصحيح، فهي التي تسيطر علينا، وتشكّل وعينا، وتتحكم بمعرفتنا، وتغيّر أمزجتنا، ومن هنا تكمن الخطورة والأهمية في وقت واحد.

لم يعد الفضاء مقتصرًا على الأدباء والفنانين واللاعبين والسياسيين، وغيرهم ممن ظهروا لأن الظروف ساعدتهم في جوانب تميزوا فيها، بل أصبح الفضاء ممتلئًا بشتى أنماط البشر: الأخيار والأشرار، العلماء والجهلة، المميزون والفارغون. إنه متاح للصوت الجماهيري، الذي يراه البعض صوت الغوغاء.

يقول أمبرتو إيكو: «إن وسائل التواصل أتاحت للحمقى الذين لا تُسمع أصواتهم إلا في الحانات أن يتحدثوا ويظهروا!». ومع ما في هذه المقولة من حِدّة إلا إنها تبين حجم التغيّر الكبير الذي طرأ على العالم كله.

ثمة إيجابيات كبيرة لا تخفى، وفي المقابل هناك ما يقلق المتأمل، ويجعل المفكرين وأصحاب الوعي أمام تساؤلات معقدة. أبرز ما يثير القلق هو هذا السُعار الهائل خلف التفاهة. لا أقصد الكوميديا والضحك، فهناك فروق كبيرة، بل أعني تلك الحلقة الكبيرة من استسخاف العقول، واللعب على المشاعر، وتكريس الـتصرفات السيئة، إضافة إلى التسارع الكبير من أفراد كثيرين للحاق بركب الشهرة والمال، بأي طريقة، حتى لو كان ذلك يتم وفق سلوك مشين، أو إثارة رخيصة، أو ادعاءات خاطئة، أو شائعات مضلّلة!

الأمر الآخر الذي يذكره البعض هو تحفيز الحواس الدائم، فهذه الوسائل تجعل من صاحبها – سواء أشعر بذلك أم لم يشعر به - منتبهًا بحواسه فقط؛ تمر به المقاطع والتغريدات والمقولات والنُكت والأحداث السياسية والاجتماعية والعديد من المدخلات التي تدخل الذهن دون ترتيب أو استعداد، ويكون التلقّي غالبًا لهذه الأشياء وقتيًّا ولحظيًّا ومحدودًا في التأثير على القيمة الحقيقية للإنسان ومعناه، وهنا يغرد المغرد بإصبعه قبل عقله، ويتلقى بعينه دون وجدانه.
ختامًا، لا شكّ أننا نحتاج إلى العشرات من الدراسات والأبحاث حول هذا الموضوع لما له من أهمية بالغة.

د. خليف غالب، شاعر وروائي سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge