المكتبةُ ليست مجردَ غرفةٍ في المنزل، ذاتِ رفوفٍ مؤثَّثةٍ بالكتب؛ وليستْ مجردَ غابةٍ احتطبوها لإعادةِ تشكيلها في حُزمِ أوراقٍ مرتَّبةٍ بين أغلفةٍ مزخرفة؛ المكتبة ليست كذلك، وإنما هي ذاكرة البشر الحبلى برغباتهم وأوجاعهم ومغامراتهم وآلامهم وآمالهم وانتصاراتهم وانكساراتهم وتطلُّعاتهم نحو المستقبل؛ والمكتبة هي محطةُ طاقةٍ لإضاءةِ حياةِ وعقولِ سُكَّان المنزل الذي توجد فيه، فهي تتفوَّق أهميَّةً على التيَّار الكهربائي الذي يضيء الغرفات، ويدير الآلات والأدوات.
لذلك، فإنَّ كلمةَ (مكتبة) كلمةٌ شاعريةٌ مجازيةٌ بامتياز، تُوحي بكثافة الضوء والاستنارة، وربما توحي أيضا بالنار التي اقتبس المبدعون منها هُداهم، وعلى رأس هؤلاء المبدعين يأتي الشعراء.
لذلك، لا نستغرب من مالئ الدنيا وشاغل الناس (أحمد بن الحسين) حين يقول:
أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سرجُ سابحٍ
وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ
ولا نستكثرُ على الكُتبِ قولَ أمير الشعراء (أحمد شوقي):
أنا مَنْ بدَّل بالكُتْبِ الصِّحابا
لم أجدْ لي وافيًا إلا الكِتابا
ورغمَ كلِّ ما كتبهُ الأدباءُ في العالم عن المكتبة، من أمثال كتابات (ألبيرتو مانغويل) أو (خورخي لويس بورخيس) وغيرهما، ورغم كلِّ التعريفات التي وضعتها المعاجمُ لمثل هذه المؤسسة الثقافية التربوية (كما يسمُّونها)، وأهدافها الاسترشادية التي تقوم عليها.. رغم كلِّ ذلك، يبقى الحديث عن المكتبة حديثًا أبديًّا لا ينتهي، والسبب في ذلك أنه تجربةٌ إنسانيةٌ ذاتية يعيشها الكثير من البشر الذين يبنون مكتباتهم حسبَ رُؤاهم عبر التنظيم والترتيب والفهرسة والتصنيف، فتتميَّز كلُّ تجربةٍ فردية عن الأخرى في طريقة البناء، وحتَّى في تفاصيل الحديث عنها.
المبدعون الحقيقيون لا يتعاملون مع الكِتاب برومانسية الحالمين، وإنما بصلابة المؤمنين الذين يتَّخذون من الكتاب معتقَدًا يعتنقونه، وليس هوايةً يمارسونها. بالنسبة لي شخصيًا، لا بدَّ أن أعترف أنني لم أبدأْ تأسيسَ مكتبتي بهذه الفكرة الصارمة، ولكنَّ هذه الفكرة كانت تتأسَّس في رأسي رؤيةً إثر رؤية، وأنا أؤسِّس مكتبتي كتابًا إثر كتاب.
لذلك، لم أخلُ من علاقتي الرومانسية بالكتب في فترةٍ من مراهقتي الفكرية، فطالما تخيَّلتُني أحمل المكتبةَ بقضِّها وقضيضها في ذاكرتي من فرط الشغف بالمعرفة، وطالما تركتُ المصابيح الكهربائية مضاءةً في مكتبتي قبل مغادرتِها بنِيَّة الخوف على الكتب من العتمة، وطالما أطفأتُ المصابيح ذاتَها وأنا في المكتبة، إيمانًا مني بأنَّ الكتب منابعُ ضوءٍ قادرةٌ على إنارة المكان.
أتأمَّل في المكتبة فأتذكَّر أنَّ الكتب في الأساس: هي التي رفعت الجدران وأَسنَدَتْها، وهي التي حملت الرفوف، وهي التي صنعت المناضد والأرائك؛ فإذا قامت الجدرانُ والأرائكُ والرفوفُ باحتضان الكتب بعد ذلك، فكلُّ ما تفعله هو ردُّ الجميل. أتأمَّل أكثر، فأرى الفوضى الرائعة التي تكتنف المكان حيث الكثير من الكتب غادرتْ أعشاشها في زوايا رفوفها والأركان، وتعانقتْ على الطاولات الصغيرة المبثوثة في الغرفة عبر مشهد فوضويٍّ وجميل، وكأنَّما تلك الكتب تتزاور ما بينها، وتمارس حالة التعايش حين تتشارك في بناءِ موضوعٍ واحد، دلالةً على أنَّ حاجة الكِتاب للكِتاب ما هي إلا صورة من حاجة الإنسان للإنسان في عمارة الأرض وبناء الحياة.
جاسم الصحيح، شاعر سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.