إطلالة

ليست مجرد كرة قدم

ليست مجرد كرة قدم

في مثل هذه الأيام قبل سنتين، لما كان حظر التجول يبدأ في السادسة مساءً حتى السادسة صباحًا، وبينما كنت أمشي في الشارع قبل دقائق من بدء الحظر، إذ بكُرةٍ تقفز فوق أحد الجدران وتعبر بجانبي لتستقر بين السيارات التي ما عادت تتحرك كأن الوقود قد نفد من العالم.

ظننتُ أن طفلًا سيخرج في الحال لاستعادتها لكنه ظلَّ لسببٍ ما داخل البيت.

ربما كان ذلك بسبب الخوف من الحظر -وقد بدأ أو كاد- أو لعل باب البيت كان مقفلًا، أو ربما كان الطفل أصغر بكثير من أن يخرج وحده. حملتُ الكرة بيدي وقذفتها إليه كما لو كانت كرة سلة لأسمع صرخة الطفل الفرِحَة. صرخةُ هدفٍ في الدقيقة الأخيرة من المباراة. لم ير أحدنا الآخر. لئن كنتُ قد أعدتُ إليه كرته فقد أعاد إليّ طفولتي بصرخته.

تذكّرتُ يوم كنتُ طفلًا مثله نرتجل ملعبًا في الشارع. لم نكن بحاجة إلى أكثر من كرة قدم، أما المرمى فقوائمه هي أحذيتنا. الجيران هم أفراد الفريق وأحيانًا ينضمُّ إلينا بعض المارة. نعدو خلف الكرة، لا بد أن جزءًا كبيرًا من سعادتنا كان في ذلك الركض. ما أطول تلك المباريات. تقطعها بين الحين والآخر سيارة عابرة، ولا تنتهي حتى يدعونا آباؤنا أو أمهاتنا بنبرة لا تخلو من الحزم، فإذا تأخرنا تصاعدت النبرة إلى الوعيد.

كبرتُ بعدها بما يكفي لأدرك أنني لستُ لاعبًا جيدًا. ليس من السهل أن يصارح المرء نفسه خصوصًا في ذلك العمر. صار ذلك اللاعب مشجعًا، وحالما حصلتُ على المركز الأول في صفي الدراسي حتى رجوت أبي أن يحملني إلى ملعب المدينة. كانت تلك أوَّلَ مكافأة تفوق دراسي. لا أنسى ذهولي في المدرجات، إذ كلُّ شيء في الملعب حيٌّ ومباشرٌ ولا يمكن إعادته. اللاعبون بأجسامهم الحقيقية وقد كان الواحد منهم في التلفاز يبلغ طوله بالكاد أصبعًا واحدًا!

عيناك تتكفلان بالنقل التلفزيوني، فإذا أغمضتهما أو شردت قليلًا تغامر بفوات لعبة جميلة أو حتى الهدف الوحيد في المباراة. لا حضور للمعلق الذي يلعب دور السكر في الشاي أو القهوة -كرة قدم خالصة صرف- إن هو إلا صوت الأقدام تركل الكرة وأهازيج الجمهور السعيد أو حسرات الجمهور الحزين الذي يتردد في لحظةٍ واحدة بين الدعوات والشتائم.

ما أعجب تلك الرياضة التي ستأخذني فيما بعد إلى بطولات لا تُنسى وخسائر لا تنسى كذلك. أتأملها اليوم وقد كبر الطفل والفتى والشاب واكتهل وذهب التعصب إلا قليلًا، وبقيتْ تلك البهجة نفسها وهي بهجة تدوم للبعض حتى آخر العمر.

شاهدتُ قبل أيام احتفالات نادي ريال مدريد بمناسبة حصوله على بطولة الدوري الإسباني ولفتَ انتباهي شيخ في الثمانين وقف ليحيي الأبطال ويشير إلى قلبه مرةً تلو أخرى. شدّتني ابتسامته التي لو أزلنا التجاعيد حولها لظهر حتمًا وجه ذلك الطفل الذي ألقيتُ إليه الكرة.

 

عبدالله ناصر، قاص وكاتب سعودي
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge