إضاءة

مصارف بلا نقود

مصارف بلا نقود

كان للحجاج من الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي السابق، وخصوصًا داغستان، رونق عبور بهيّ عندما تمر حافلاتهم المزركشة، من قلب مدينتي الحدودية. وأحيانًا كثيرة يقفون ليوم أو اثنين لبيع سلع مصنوعة يدويًا، وعسل، وأشياء صغيرة جميلة. كان أبي رحمه الله إذا بدأ الموكب بالمسير، يقف على جانب الطريق رافعًا يديه مبتهلًا إلى الله داعيًا لهم بسلامة الوصول، هم وجميع القادمين من تركيا وسوريا ولبنان. كان أبي دائم الدعاء للمسافرين في كل أوقات السنة، وكنت أستغرب من دعائه الطويل لهم، وسألته يومًا: "هل تعرف هؤلاء حتى تدعوا لهم بهذه الطريقة الملحة؟"، فقال لي: "كلّ خير تفعله سيعود بلا شك إليك، وسييسر الله من يدعو لنا... يا ولدي"!

ذات ليلة، كنت مسافرًا مع أسرتي واشتد عليّ النعاس قبيل الفجر، وكنت أتوسل إلى الله أن أواصل إلى المدينة التالية، فليس بإمكاني أن أبيت في الصحراء. وحدث أنني سهوت للحظة وإذا بسيارتي تطير مبتعدة عن الطريق، وهبطت مثل مروحية نفد وقودها، فدخلت إطاراتها في بطنها وسال زيتها وماؤها، ورجتني وأطفالي النيام رجًّا. كان الصراخ داخل المركبة من هول الصدمة، وخوفي من اشتعال السيارة مرعبين. وعندما توقفت المركبة، واستوت على كثيب رمل بين حفر الباطن ورفحاء، تفقدت زوجتي وأبنائي فكانوا جميعًا بخير. اللهم لك الحمد! لم يخطر ببالي حينها إلا يدا أبي المرفوعتان بالدعاء للمسافرين وحجاج الشام وأوروبا.

عندما قدمت للعمل في السعودية، استقبلتني مجموعة من الشباب بحفاوة كبيرة، وقدموا لي المساعدة وخصوصًا في التنقل فلم أكن أحمل رخصة قيادة سعودية ولذلك كانوا يحملونني بسياراتهم، وساعدوني في اختيار السكن وشراء الأثاث وعرّفوني على المدينة. وعندما استقر الحال بي، كان مستحيلًا أن أسدّد لهؤلاء دينهم فهم يعرفون المدينة ولديهم بيوتهم وسياراتهم، لذلك رأيت أن عليّ تقديم هذه الخدمات للقادمين الجدد! ويبدو الأمر كما يقول المثل: "كل شيء دينْ.. حتى دموع العينْ".

كل عمل تقدمه وقت الرخاء، حتى الدعاء للآخرين، سيعود عليك في الأوقات العصيبة، ومن حيث لا تدري! وحديثًا تمّ تقنين هذه المبادرات ليكون العائد مضمونًا عند الحاجة. يقول أحد الطلاب العرب المقيمين في سويسرا إنه سكن شقة لامرأة متقاعدة بلغت عقدها السابع لكنها لا تزال تعمل ليومين في الأسبوع، وكان يستغرب من عملها، فسألها ذات يوم: "هل تحتاجين المال؟" فأجابت: "أنا أعمل لأكسب الوقت فقط! أضع مدخراتي من العمل في مصرف الوقت لأستخدمها متى شئت، وأستطيع أن أستخدم هذا الوقت من رصيدي عندما أحتاجه".

ويحدث أن تتعثر هذه المرأة وتسقط مما يضطرها للبقاء في البيت فيعرض عليها الشاب المساعدة، لكنها ترفض لأن لديها رصيدًا من ساعات العمل التطوعي، فيرسل لها المصرف فتاة شابة تساعدها لتضيف إلى رصيدها هي الأخرى من ساعات العمل في مصرف الوقت.

وحدّثني صديق أن الفكرة ذاتها تبلورت بشكل مختلف، فقد أسست مجموعة من الشباب مصرفًا مماثلًا ولكن للمهارات. تقوم الفكرة على أن المشترك يقدّم ساعات من التدريب للمهارات التي يتقنها، وفي المقابل يستطيع أن يسترد هذه الساعات على شكل تدريب على مهارات يحتاجها. يقدم صديقي ساعات تدريبية في البرمجة ويتلقى بالمقابل دروسًا في اللغة الإنجليزية.

من يفعَلِ الخيرَ لا يُعدَم جَوازِيَهُ........لا يذهبُ العُرفُ بين اللَه والناسِ

 

محمد العداربة، هيئة التحرير.
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge