إضاءة

قبضةٌ من أثر الكورونا

قبضةٌ من أثر الكورونا

تكادُ تستحوذ غُبشة على زجاج الذاكرة كلما حاولتَ القبض على ملامح الأشخاص الذين شكّلوا ملامح سنوات الطفولة وأحداثها. الأسماء التي تبلى وتتناقص كلما مر العمر متخففًا من وجوه كثيرة آنست وحشة الدروب التي سلكناها. 

كان الزمن يبدو ساكنًا في عبوره حيواتنا إلا من تقشّفٍ في نضارة البشرة وانحسارٍ في مدّ الشعر. كان ساكنًا إلا من خسارات أرواحٍ ظننا أنها ستناورُ لجج الأيام لبقاءٍ يطول؛ غير أن الفناء يحدق بمصير الكائن الطيني مهما التصق عميقًا في طيّات سجل الحياة وصفحاتها. ستدركُ فجأةً أسماءً كثيرة تمحى من هذه الصفحات بتواترٍ مرعبٍ، أنّ شيئًا متناهيًا في الحجم عصيًا على الإدراك قد أورد من لم نحتسبهم عرضةً له، سبلَ الهلاك خلال فترةٍ أوجزها عامان من الترقُّبِ المحض. أنّ ذلك الشيء، المرصود تحت العدساتِ المكبّرة وحسب، يستبدُّ ويجثم على الصدورِ كأنه صاحبُ السطوة الممتدة والنافذة على البشر. 

وسيبحُّ الصوت وتضيعُ الكلمات حين تسمع عن رفقة اللحظات الأنيسة وقد ضلوا درب العودة في انثيالِ الألم وغيّه الدؤوب إثر سيطرة ذلك الشيء على مفاصل مناعتهم الجسدية. وإذن، هذا ما سيبدو عليه الموتُ متغلغلًا في ملامح الأحبة، ثقيلًا كخطوط عمر لم تأتِ بها السنوات بعد. نظراتٌ منطفئة وشحوب ذاهل يقتطعك من لون لم تكن لترتبه سجيتك ذات حزن. 

تلفك الذكريات بحبالها. ابتسامات لم تحسن اجتزاء نفسها من سياق الزمن المرصود في روزنامة أيامك الرتيبة. وهكذا يهزك الزمن خبرًا إثر خبر حين تظن أنكَ تستطيعُ تحييد نفسك بعيدًا عن متناول الفجيعة، تقف بك كلُّ لحظة بعد أن يتزلزل كيانك من أقصاهُ إلى أقصاه. وفي لحظةٍ ستقفُ حائرًا والعالم يدور بك غير آبهٍ لمرور الناس من حولك إلى أن تجدَ جدارًا يسندك مما أنتَ فيه من تيه. وحدك تفرُّ الآن من الذكريات ولكن لا عاصم من الحزن ولا مواثيق تؤكد انتهاء الحذر.

وها نحنُ ذا، على الرغم من ذلك، نواصلُ المسيرَ لأن كل نسمةٍ من هذه الحياة جديرةٌ بالعيش ولأن كل ثانيةٍ جديرةٌ بأن نحسن العملَ من أجلها في توخي طرق الوقاية من أي سوء يتربّصُ بأيامنا الحلوة. 

ومن أجل الراحلين الذين خبأتْ أعمارهم، ومن أجلنا نحنُ المتشبثون بالأمل، ومن أجل أطفال العالم الذين تضاءل وقع خطواتهم الرهيفة عن الأرض وتراخت ابتسامتهم حبيسةً في نطاق الجدران وأطبقت عليهم موجات «الواي فاي» اللاسلكية لتقيدهم في مقعد دراسةٍ لا ينتمي لواقع ملموس، بل افتراضٌ لا يعي الطفلُ منه إلا صوتَ مدرسٍ «افتراضي» وزملاء «لا مرئيين». لكل هذا الحزن الذي تزودنا به مقدار ما لا يحتملهُ عمرٌ إضافي، لنكن على قدر المسؤولية حتى نخرج سالمين ومن نحب. 

 

ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها. 
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge