إضاءة

قطرة الزيت ... والتوازن

 قطرة الزيت ... والتوازن

كان للكاتب الكبير توفيق الحكيم مقال أسبوعي في صحيفة الأهرام المصرية في ثمانينيات القرن الماضي. وفي صدر المقال، الذي كنت أواظب على قراءته، كان يضع الحديث النبوي الشريف الذي يقول: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن يغرسها، فليغرسها».

عندما بدأت حياتي العملية، فهمت قيمة العمل ومعنى أن تقوم بأقصى جهد حتى لو شعرت بالإحباط من عدم رؤية نتائج فورية لما تقوم به. لذا، آمنت أن العمل ليس مجرد وسيلة لكسب العيش، بل هو شرف وأثر تتركه بعدك.

لذلك، لا أفهم حتى الآن لماذا يشكو بعض الناس من العمل إلى درجة أن يقوم من النوم بتثاقل، ثم يتحرك وهو يشعر في قرارة نفسه أنه يتفضل على العمل. وأثناء ساعات الدوام، يتفنن في تضييع الوقت، وقد يبحث عن الأعذار والمبررات للخروج مبكرًا أو الغياب. لا يجد في نفسه رغبة لفعل أي شيء لصالح العمل الذي يتقاضى عليه أجرًا، وقد يذهب بعض هؤلاء إلى إبرام كثير من لقاءات الأصدقاء في المقاهي والمطاعم في أوقات العمل.

كثيرة هي الصعوبات في أماكن العمل، وهذه طبيعة الأشياء، لكن أحسب أن الاستسلام لهذه العوامل لن يزيدك إلا إحباطًا وكرهًا للعمل، وسيجعل وجودك في العمل قطعة من العذاب. إذا كنت غير قادر على تحويل هذا الإحباط إلى دأب وسعي، فاترك العمل وابحث عن غيره لتجد نفسك فيه، بل ربما يجد أحدهم في عملك الذي تكره فرصة ماسية.

على الجانب الآخر، يعشق البعض عملهم لدرجة تتجاوز المنطق، بل قد يحزن في إجازة نهاية الأسبوع، ولا يبدد حزنه إلا قدومه إلى العمل والجلوس إلى المكتب الخالي من الناس والعمل في أي شيء. عرفت صديقًا لا يغادر المكتب إلا في الليل ويأتي بعد شروق الشمس بقليل، وكان يود لو تتاح له فرصة النوم في المكتب فهي مجرد ساعات معدودة قبل العودة من جديد. مثله، قد ينسى أسرته وحياته الخاصة لأن أوقاته الفضلى هي التي يقضيها في العمل. وليس له أصدقاء أو معارف أو حتى ذكريات خارج حدود الشركة. أصيب هذا الصديق بعد تقاعده بحالة اكتئاب شديدة، ولم تفلح معه جميع الطرق والوسائل الطبية، ثم نبذه أهله بعد أن نبذهم لأكثر من أربعين عامًا.

تحقيق التوازن بين من يعشقون العمل ومن يكرهونه، يتمثل في مغزى هذه القصة. أرسل أحد الملوك ولده إلى رجل لكي يعلمه مما أوتي من الحكمة التي اشتهر بها، ولما وصل الشاب وجد الرجل يقطن في قصر ضخم ولديه ضيوف كثيرون. التقاه أخيرًا بعد جهد وطلب منه أن يقوم بجولة في القصر حتى ينتهي من مقابلة الضيوف، لكن بشرط أن يحمل في يديه ملعقة بها قطرة زيت، وأن ينتبه لها لكي لا تسقط منه، جال الشاب القصر وعينه على قطرة الزيت لكي لا تسقط، ثم عاد بعد فترة إلى الحكيم فسأله إن كان شاهد معالم القصر وروعته وتفاصيله، فهز الشاب رأسه نافيًا رؤية أي شيء لأن بصره كان مركزًا على قطرة الزيت، فطلب منه الحكيم أن يجول في القصر مرة أخرى ومعه الملعقة نفسها بقطرة الزيت ويشاهد معالم القصر الفريدة، ولما عاد بعد ساعات سأله الحكيم أين قطرة الزيت فقال الشاب: «سقطت مني». هنا قال الحكيم إن هذا هو الدرس الذي أردت أن تتعلمه: «استمتع بحياتك دون أن تسقط منك قطرة الزيت».

 

ناجي عوض، هيئة التحرير.
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge