ربما كان من المفهوم أن بعضنا، بحكم التقدم في السن، يرى أن «الماضي كان أجمل»، ويطلق على تلك الأيام «زمن الطيبين» في دلالة على ما تكنّه مشاعره من تقدير حنين تجاه ماضٍ كان ربما يحمل وعودًا بحياة أفضل.
الحنين شعور يراود كل إنسان، وجميعنا دون استثناء عرضة لسطوته. قد ننزلق إليه ذهنيًا بنعومة لأسباب عدة، غير منتبهين إلى أننا قد نُستدرج إلى فخ متربص بنا دون إدراك ووعي منا.
وقد لا يقتصر تذكّر الماضي، حال إيغالنا فيه، على رؤية الجانب المبهج من الزمان الماضي فحسب، فقد ننساق وننجرف من حيث لا نشعر إلى ذكريات مؤلمة وتجارب موجعة متزامنة مع تلك الأحداث «السعيدة» الماضية! ففي حياة كل إنسان أمور من الماضي لم يتم حسمها وصدمات ونزاعات يصعب نسيانها، ويتعذر محوها، فتظل منزوية في هامش الوعي، في الحين الذي نعتقد مخطئين أننا تجاوزناها، لكن حين يتمكّن منا فخ الحنين تنبثق انفعالاتنا وتتمظهر آثار ذلك الضرر النفسي في إسهابنا في الحديث حولها وشعورنا بالمرارة تجاهها واتقاد مشاعرنا.
هنا قد يأخذ ذلك التذكر اتجاهًا مَرَضيًا مع استيلاء تلك المنغصات على كامل تفكيرنا، فتغمر لحظات حياتنا الحاضرة سحابة من الحزن. ويصعب على البعض نسيان الألم ومقاومته والمضيّ قدمًا في حياته بسبب التركيز على البؤر السيئة في حياتهم، فيستبد به القلق وليس من شأن ذلك سوى أن يؤدي إلى السقوط في وهدة الاكتئاب.
ليس هناك مشكلة حقيقية في أن نصبو إلى الماضي عبر الحنين ونحلل من وقت لآخر ما حدث في أيامنا السالفة، لكن عندما يحاول الماضي استهلاك واستنزاف حياتنا وتملكنا، فحينها يجب أن نقوم بدور واعٍ كي لا يحدث ذلك ونفقد اتصالنا بالحاضر.
يمكن تجاوز تلك الحالة و«صنع السلام» مع الماضي بعدة طرق. يجب بداية استغلال فارق الزمن بيننا وبين الحدث الذي نستعيده من الأمس. ذلك يوفر لنا إمكانية رؤية الذكرى المؤلمة من الخارج. فلربما، تحت تلك الظروف، هذا ما كان بوسعنا فعله. وقد يكون قرارنا حينها مترتبًا على رؤيتنا للحياة وقتها. إذا كانت النفس هي مكمن اللوم على ما حدث في الماضي فيجب إدراك أن الماضي لا يمكن تغييره.
ثم لنحاول أن نرى النصف الممتلئ من الكأس؛ فربما أكسبتنا تلك الأزمة معرفة أو درسًا مهمًا في حياتنا أدى لتفادينا الكثير من المآزق والعثرات. أما إذا كان الأمر له علاقة بشخص آخر فلنحاول أن نرى الأمور من خلال وجهة نظره. لعله لم يكن يقصد الإساءة إلينا. هذا لا يعني تبرير إساءة الآخرين، لكن يعني منحهم فرصة عادلة لفهم منطلق ما صنعوا.
عندما نحرر أنفسنا من ذلك الوضع يكون لدينا القدرة على أن نرى الأمر بموضوعية. وسيساعد ذلك في ترك الماضي يذهب إلى حال سبيله، وإعادة الاتصال بالحاضر. الماضي يبتعد. لقد حان الوقت لتركه يرحل لوحده دون أن يصحبنا معه.
عبدالله الوصالي: روائي وكاتب سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.