إضاءة

عقدة الرقم (1)!

عقدة الرقم (1)!

يبدو أن البعض لديهم شعور بامتيازات «متوهّمة» بالأفضلية عمن سواهم، وبالاستحقاق أكثر من غيرهم، وأنهم لا بد أن يكونوا في الطليعة، وتحت الأضواء، ومحط انتباه الجميع. تغريهم صدور المجالس ومنصات التكريم وتصفيق الجماهير.

هؤلاء يعيشون على مبدأ «إما كل شيء أو لا شيء»، ولذلك نرى الكثير من المشاريع والأفكار ماتت واندثرت، وأفراحًا تأجّلت، والعديد من المحاولات فشلت، وإنجازات لا حصر لها تأخرت، وكل ذلك بسبب عقدة الرقم (١)!

يغلب عليهم «الاعتداد الزائف» بأنفسهم وشعورهم المتضخّم بالاستحقاق، ويتمثّلون دائمًا قول أبي فراس الحمداني:

ونحنُ أناسٌ لا توسّط عندنا..
لنا الصدرُ دون العالمينَ أو القَبرُ!

في أولمبياد ١٩١٢م، تصدر أحد العدّائين سباق ١٥٠٠ متر. وقبل نهاية السباق بأمتار معدودة، تجاوزه عدّاء آخر ليسبقه إلى خط النهاية ويفوز بالسباق. وبعد٧٠ عامًا، قال صاحب المركز الثاني والميدالية الفضية في حوار صحفي: «أستيقظ أحيانًا وأتساءل عما حدث لأستحق تلك النهاية المؤسفة».

وفي عام ١٩٩٢م، قام بعض الباحثين من علماء النفس باختبار فرضيتهم على الفائزين بالمراكز الثلاثة الأولى في الألعاب الأولمبية الصيفية ذلك العام، حيث قاموا بعرض صور الفائزين وهم على منصات التتويج على عدد كبير من الناس، لتقييم مستوى فرحهم أثناء استلامهم لميدالياتهم على مقياس من ١ إلى ١٠. وكانت النتيجة طبيعية لأصحاب الميداليات الذهبية حيث سجلوا أعلى معدلات الفرح، بينما كانت المفاجأة أن أصحاب الميداليات البرونزية أظهروا مستوى أعلى من الفرح بالمقارنة مع زملائهم من حاملي الميداليات الفضية!

ويأتي السؤال، لماذا يعدّ البعضُ المركزَ الثاني فشلًا؟ لماذا نحرم أنفسنا فرحة الإنجاز في تلك اللحظة؟ ولماذا نقسو على ذواتنا ونطالبها بالكمال والتفرّد؟

إنه فخ المقارنات، الذي يجعل من يسقط في حبائله زاهدًا فيما لديه، منتقصًا ومزدريًا له. وهذا بالضبط ما حرم الكثيرين من حاملي الميداليات الفضية من الفرح ونشوة الانتصار، فبالرغم من تفوقهم على المئات وربما الآلاف من المشاركين، وحتمًا الملايين من البشر، إلا أن أعينهم كانت على ذلك الشخص الوحيد الذي تفوق عليهم، فخالطت الحسرةُ فرحتهم وأبدلتها همًّا وغمًّا!

وفي رأيي أنه ليس للإنسان من سبيل للخروج من هذا المأزق إلا بالتعاطف مع ذاته والاعتراف ببشريته ونقصه، والتركيز -وهذا أمر في غاية الأهمية- على الموجود لا المفقود، على ما ملك وحصّل لا على ما خسر وفوّت، وعلى ما أنجز وأدرك لا على الفرص التي أضاع.

إنه الرفق بالنفس، وتقدير الجهد الذي قدّمتَه، والامتنان لما حققته، ولو لم يبلغ الكمال، فالكمال عزيز.

وخلاصة القول إنه ليس شرطًا أن تكون الأول في كل شيء حتى تفرح، ولا قائدًا حتى تؤثر في الآخرين وتترك بصمتك، ولا تحت الأضواء حتى يشع نور معرفتك وفيض عطائك.

كلنا بلا شك نسعى لتحقيق الأفضل، ولكننا لسنا مضطرين لخوض سباقات مع غيرنا. علينا التخلص من عقدة الرقم (١)، والاستمتاع بما حققناه، وعيش لحظة الفرح بطولها وعرضها وبكل تفاصيلها، وألا نبخس إنجازاتنا حقها ولو كانت بسيطة، لنرتاح ويرتاح من هم حولنا.

 

متعب القحطاني: مدير قسم النشر.
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge