إطلالة

في البحث عن سبائك الكتب

في البحث عن سبائك الكتب

مضت أكثر من خمس عشرة سنة مذ ذهبتُ إلى أول معرض كتاب في حياتي. كان المعرض آنذاك يقام في جامعة الملك سعود بالرياض. أخذت أطوف في أرجائه على غير هدى، وقد تكاثرت الكتب فلا أدري أيها أقتني. كان الدخول إلى المعرض يشبه الدخول إلى عشرات المكتبات في الوقت نفسه. وكنت أسير بلا قائمة، والميزانية المحدودة تدفعني إلى حكمة اقتصادية غير معهودة. وما كان للبهجة التي يعرفها القارئ حال دخوله إلى معارض الكتب أن يفسدها عدم العثور على كتبٍ بعينها أو حتى عدم القدرة على شرائها.

ولأن معارض الكتب أقرب ما تكون إلى المتاحف، لا تكفيها أبدًا زيارة واحدة، جئتُ صباح اليوم التالي والذي يليه وحتى آخر يوم في المعرض. تعلمت سريعًا من أخطائي: خطأ الذهاب دون قائمة كتب؛ وخطأ خلو تلك القائمة من دور النشر؛ إذ يغدو البحث عن الكتاب حينها مضنيًا، بل مستحيلًا دون معرفة الناشر؛ خطأ الميزانية القليلة والتردد الطويل عند الشراء؛ ثم بعد سنوات خطأ الميزانية المفتوحة والتمادي في اقتناء الكتب بشراهة؛ خطأ شراء كل شيء في الأيام الأولى دون مساومة؛ وخطأ الانتظار حتى اليوم الأخير قبيل إغلاق الكراتين والمجازفة بنفاد الكتب، خصوصًا الموسوعات والمعاجم وسلاسل التراث.

كان هذا في زمنٍ يصعب فيه الحصول على الكتب، ولم تكن ثمة متاجر إلكترونية والمعروض في المكتبات قليل وغير كافٍ، وإذا ما فاتك كتابٌ فلن تحصل عليه إلا في المعرض القادم، ولربما نفد فلا تُعاد طباعته إلا بعد سنوات.

لا أنسى أنني ظللت أبحث عن رواية «الصخب والعنف» لفوكنر أكثر من ثلاث سنوات. صرتُ أتردد بعدها على معارض الكتب الخليجية القريبة، في البحرين، أو الدوحة أو الكويت أو الشارقة. وتضاعف قليلًا هذا الشغف -أو الهوس- ورحتُ أحضر المعارض العربية البعيدة، في عمّان ودمشق والقاهرة. وقد صادف مرةً أن كنت في مدريد ومررت بمعرض الكتاب، فلم أتمكن من تجاوزه ودخلت إلى هناك. أن تكون محاطًا بآلاف الكتب، أن تقف على العناوين، أن تقلّب الصفحات، أن تمر بأصابعك على كعوب الكتب ذاك هو الفردوس البورخيسي. ومع أني لا أجيد اللغة الإسبانية إلا أنني خرجت يومها بأكثر من كتاب.

ما كنت لأنام ليلة المعرض مثلما كنت لا أنام في طفولتي ليالي العيد. أمضي وحيدًا وإن رافقني أحدهم فإلى بوابة المعرض ثم نفترق. ومن يتردد كثيرًا على معارض الكتب تنعقد الصداقة بينه وبين الباعة فيغدو من أهل المعرض، إن صح التعبير. وتراه يحيط علمًا بجديد الكتب وقديمها فلا يعود بحاجة إلى قوائم كتب ولا إلى دليل. وهؤلاء، وأنا منهم، يعرف بعضهم بعضًا من النظرة الأولى. يتسابقون إلى الكتب ويطوفون بأكياس ثقيلة ولا يسمحون لأحدٍ أن يحملها عنهم حتى إذا عادوا بها إلى بيوتهم أخذوا يقلبونها مثل سبائك الذهب.

 

عبدالله ناصر، كاتب وقاص سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge