إضاءة

حَلجْيِه يُؤلِمُني”!

حَلجْيِه يُؤلِمُني”!

لعل ابتسامة لاحت على شفتيك حينما تبادر إليك معنى عنوان هذه المقالة، أو ربما كنت لا تزال تُفكِّك ما التبس عليك منه، وفي هذه الحالة، فأنا مدينٌ لك بتوضيح قد يرفع عنك غامض المعنى في هذا العنوان.

«حَلجيِه يُؤلِمني» هي نفسها «حلقي يؤلمني»، لكن الكلمة الأولى هنا منطوقة باللهجة الحساوية الأثيرة لدى أهلها، حيث انقلبت القاف جيمًا، وأفصحت ياء الملكية عن نفسها بجرسها المدوي متبوعة بهاء السكت.

وبتعبير آخر، هذه الكلمة هي زواج غير تقليدي، بين «حلقي يؤلمني» من الفُصحى، و»حَلجْيِه يعورَنْيِه» من اللهجة الحساوية الدارجة؛ وإن بدا لك هذا الزواج مُتكلَّفًا وغير متكافئ حينما تقرؤه، فإنه لم يبدُ لي كذلك حينما سمعت الكلمة لأول مرة من فم صاحبها الكهل البسيط، الذي كان يشكو ألمه بطريقته الخاصة!

بنظري، مثل هذا الزواج بنحو ما، قد يكون بعض ما تحتاجه اللغة العربية لكي تُحلِّق بجناحيها إلى عُشِّها الدافئ فوق قمة لغات العالم: الفُصحى جناح الأدب الرفيع والعلم الدقيق والفنون الأصيلة، والعامية جناح الحياة اليومية والتراث والفنون الشعبية المتنوِّعة.

ونحن نحتفي بالعربية في يومها العالمي، لنا أن نتذكر أن لغتنا الرائعة لا يليق لها أن تكون حبيسة أكوام الكُتُب من القرون الأوائل، كما أنها ليست مجرَّد القواعد النحوية والإملائية التي تملأ الصفحات، وإنما هي كائنٌ حي يتوق إلى الحركة والابتكار، وقد يقتله التقييد بأصفاد الزمن الماضي.

لا شكَّ أن اللغة لا بُدَّ لها أن تحتفظ بقوامها المُميَّز حتى لا تذوب هويتها، وهذا ما حرص عليه علماء العربية قديمًا وحديثًا، حيث أرسوا في كتبهم رواسي علومها. لكن اللغة الحيَّة أيضًا لا تكلُّ من النمو مستفيدة من روافد الحياة المتعدِّدة، حتى تُصبح لغة خطاب معبِّرة، يستطيع الفرد البشري العادي أن يتحدَّث بها عن أي شأن من شؤون حياته، دون أن يضطر إلى الاستعانة بأحد!

وحتى تحيا اللغة العربية، لا بُد لها من جناحيها معًا؛ ألقُ الماضي وعبقريته وجماله، وحيوية الحاضر وانطلاقه نحو الجديد.

مجامع اللغة بذلت وما تزال تبذل، قدر استطاعتها، جُهودًا من أجل تعريب ما يحتاج إليه الإنسان العربي المعاصر في لغته من علوم وليدة وفنون وحضارة، أدمنَّا بأسف استيرادها من غرب الأرض وشرقها.

لكن ما يسترعي الانتباه هنا هو مبادرة المعجم التاريخي للغة العربية، التي تبنَّاها مجمع اللغة العربية بالشارقة، بإشراف اتحاد المجامع اللغوية العربية، حيث أُطلقت الأجزاء الثمانية الأولى منه في شهر ربيع الأول الماضي، بهدف التأريخ لمفردات لغة الضاد والتغيُّر في مدلولاتها عبر القرون الماضية.

هذه المبادرة، قد تُعيدنا إلى الموقد الأول الذي تشتعل من خلاله اللغة وهو الاستعمال، ولعلَّها تُبرز الابتكار الذي يتحلَّى به الإنسان العربي العادي، وهو يتفاعل مع لغته الأم، بعيدًا عن معاجم اللغة الجامدة، التي هي في أصلها مدوِّنات لمدلولات لُغوية كانت قيد الاستعمال في آن ما!

كما تجدر الإشارة إلى مبادرة أخرى تأتي في سياق المزج بين القديم والحديث للاحتفاء باللغة العربية الخالدة، وهي كتاب «المعلَّقات لجيل الألفية»، الذي تصدره أرامكو السعودية عبر ذراعيها الثقافيَين، مركز إثراء ومجلة القافلة.

فهذا الكتاب يقدِّم نخبة الشعر العربي الجاهلي، في قالب حديث يأمل من خلاله أن يخاطب الجمهور العربي المعاصر، بل وأن ينطلق إلى الجمهور العالمي من خلال ترجمة المحتوى إلى اللغة الإنجليزية، المهيمنة على الاستعمال حتى إشعار آخر نرجو نحن «العرب» ألا يكون بعيدًا.


ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.
 
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge