حين يلثم العبير جبين الجبال..

الورد الطائفي.. عبق الماضي وأنفاسٌ لاقتصاد حديث

 الورد الطائفي.. عبق الماضي وأنفاسٌ لاقتصاد حديث

فوق قمم سلسلة جبال السروات الشاهقة في منطقة مكة المكرمة غرب المملكة، تهب نسمات عطرة يمتزج فيها أريج التاريخ الثقافي العريق بعبق الاقتصاد وجهود تمكين المرأة؛ ففي كل إطلالة للربيع منذ حوالي ثلاثة قرون، تزدهر الورود الدمشقية الفاتنة وردية اللون، المعروفة بالورد الطائفي، في حقول المزارع القديمة المحروثة بين الصخور الغرانيتية العملاقة، بين منحدرات الطائف الجبلية التي يبلغ ارتفاعها 2000 متر.

ومن أواخر مارس وحتى نهاية أبريل من كل عام، تحصد الطائف ما يزيد على 500 مليون وردة سنويًا تنبت بين أحضانها، حيث يمثِّل العطر المستخرج من بتلاتها المخملية قطاعًا سوقيًا مهمًا يتأهب لثورة التحول الرقمي، ويُسهم بتقديم الفرص للنساء السعوديات في المنطقة.

اقتصادٌ يتنفس عبق الورود

وتتكون الوردة الطائفية الجذابة من 30 بتلة، وهي تشتهر بنقاوتها ورائحتها الزكية الفريدة شديدة التركيز. وغالبًا ما يُزرع الورد الطائفي من أجل بتلاته الغنية بالزيوت، التي تخضع للمعالجة لتتحول إلى زيت الورد باهظ الثمن؛ وتهتم بزراعته حوالي 860 مزرعة محلية، تمتد من جبال الشفا جنوب مدينة الطائف وحتى وادي محرم والهدا.

ويُستخدم الزيت المستخلص من بتلات الورد الطائفي، أو ما يُسمى «بالعطّار»، في صناعة أرقى أنواع عطور العلامات التجارية الفاخرة حول العالم. ويتطلب الأمر 40,000 وردة من الورد الطائفي لإنتاج قارورة واحدة تحتوي 10 غرامات من العطر، ويبلغ سعر السوق للغرام الواحد حاليًا 120 ريالًا سعوديًا.

عطورٌ تنتشر عبر الثقافات

ويُشكِّل الورد الطائفي علامة ثقافية تجارية لمدينة الطائف، والإقبال الذي يحظى به هذا الورد في مختلف الثقافات يساعد على تعزيز السياحة في المملكة، والتعريف بثقافتها ونمو اقتصادها، فكثيرًا ما يختتم الحجاج والمعتمرون من داخل المملكة وخارجها زيارتهم للمشاعر المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة بزيارة مرتفعات الطائف المجاورة.

ويجذب مهرجان الورد الملون في نهاية موسم حصاد الورد ما يقارب 20,000 شخص. ووفقًا لتقرير أعدته الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة (منشآت) في عام 2019م، تُقدر قيمة سوق الورد الطائفي بـ 35 مليون ريال سعودي.

ذَهبُ الرائحة الزكية

ويُحسب زيت الورد بمعيار «التولة»، وهي قارورة تزن 10 غرامات، حيث تصل حاليًا قيمة التولة الواحدة من زيت الورد السائل إلى 1,200 ريال سعودي.

وقبل الجائحة، كان سعر التولة يبلغ 1,500 ريال سعودي، إلا أن إجراءات السلامة، كإغلاق الحدود والحجر المنزلي وتغير أنظمة الحج والعمرة، أدت إلى انخفاض الطلب المحلي، فتبع ذلك فائض في المعروض من المنتجات وانخفاضٌ في الأسعار، ما دفع قطاع صناعة العطور إلى التحول إلى السوق الإلكترونية.

وفي هذا الصدد، تدخَّلت غرفة الطائف بسرعة لتتدارك انخفاض الأسعار في صناعة الورد، حيث أوضح رئيس مجلس إدارتها، الدكتور سامي العبيدي، أن الورد الطائفي مُنتج محلي وصناعة وطنية إستراتيجية.

حصاد الورد في الصباح الباكر

ويبدأ ورد الطائف بالتفتح في وادي محرم، ثم في قمم الهدا بعد 10 أيام. وبعد 10 أيام أخرى يتنفَّس الورد في الشفا ليُختتم الموسم هناك.

وفي نهاية شهر مارس، في مزرعة متوسطة الحجم ومتعددة المحاصيل غرب الهدا، يشقُّ عمال المزرعة طريقهم فجرًا حيث يحيط بهم النسيم الجبلي العليل، فيما لا تكاد العتمة تكشف كثيرًا من ملامحهم وهم يتجولون بين صفوف شجيرات الورد يانعة الخضرة، لتنتقي أناملهم الخبيرة ما تفتَّح من أزهارها.

ومثل أنواع الورد الأخرى، يبدأ العمل على قطف الورد الطائفي في الفجر وينتهي في الصباح الباكر، قبل أن تبخِّر حرارة الشمس الزيت الثمين في البتلات الفاتنة إلى نصف كميته وقت الفجر.

وتتغلغل جذور شجيرات الورد في التربة الغنية للمرتفعات، بينما تظل سيقانها المغطاة بالأشواك ثابتة أمام هبَّات نسيم الجبال، في حين يُسمع حفيف أوراق أشجار اللوز والفواكه المجاورة وتغريد العصافير، وتترك الحشرات آثار أقدامها بالغة الصِغر في المكان بصمتٍ بالغ.

وتغطي 2.5 مليون شجيرة ورد طائفي مساحة تبلغ 2.5 مليون متر مربع من الأرض الزراعية في الطائف، حيث تعيش شجيرات الورد الناضجة المعتنى بها 20 عامًا. في هذه المساحة الخضراء، لا تتوقف مواسم المحاصيل، حيث يتبع موسم الورد موسم اللوز، ثم الرمان والعسل والمشمش والعنب، وغيرها من الفواكه والخضار.

الثورة الرقمية للمزارعين

تركت النهضة التي أعقبت اكتشاف النفط في المملكة أثرها على القطاع الزراعي، حيث أصبح المزارعون يمتلكون أدوات وإمكانات تسمح لهم بالتوسع في الإنتاج.

وتطلُّ إحدى أعلى المرتفعات الجبلية في الطائف على مزرعة الشفا للأخوين نايف وفيصل الخالدي. يشير فيصل بيده إلى المدى من حوله، وهو يحدق في السماء الزرقاء المتلألئة التي تخترقها القمة الجبلية الشاهقة، موضحًا أنه يكاد يعرف كل حجر في هذا المنحدر منذ صغره. يقول فيصل: «بعد عودتي من المدرسة، كنت أرعى الأغنام على الجبل وأنا حافي القدمين».

وقبل 40 عامًا، قرَّر أصحاب المزرعة المملوكة لأسرة متعددة الأجيال إضافة الورد الطائفي إلى قائمة محاصيلها من الفواكه والخضار، وهي الآن تحصد ما يقارب 200,000 وردة يوميًا خلال الموسم الذي يدوم 45 يومًا، حيث يتناوب 20 شخصًا على العمل طيلة 21 ساعة كل يوم، من الساعة السادسة صباحًا حتى الثالثة فجرًا للحصول على محصول الزيت بإجمالي يتراوح بين 14 و17 لترًا.

يقول فيصل: «نحب الورد، ونكرس حياتنا لأجله خلال الموسم». ويضيف: «عندما تستيقظ صباحًا، تقطف الورد مع زقزقة العصافير، ثم تأتي للمختبر لتشعر بدفء 29 موقدًا تشتعل على درجة حرارة عالية، وكلما قطفت الورد وعالجته باكرًا، كلما أنتجتَ مزيدًا من الزيت».

ويقوم الأخوان بتوسيع نطاق مجموعة منتجات «بيت الورد الطائفي» من ماء الورد وزيت الورد لتسويقها على الإنترنت، لتشمل اللافندر والنعناع والمسك والحرمل.

ويرسل الأخوان كل عام هدية تتكون من 60 غرامًا من زيت الورد إلى المدينة المنورة، بهدف استخدامها في تعطير الحرم النبوي الشريف.

تقطير الورود المخملية

في حين أن عديدًا من المزارع ترسل محصولها من الورد إلى المصانع لتحويله إلى زيت الورد وماء الورد، تمتلك بعض المزارع معامل تقطير خاصة بها. وعلى مر العصور، ظلت المبادئ الأساس لعملية التقطير المعقدة والحساسة كما هي دون أي تغيير باستثناء الغاز، الذي أصبح يُستخدم مصدرًا للحرارة عوضًا عن الحطب.

وتُغلى أزهار الورد لمدة تصل إلى 45 دقيقة في أوعية تقطير محكمة الغلق، يسع كل منها 12,000 وردة و120 لترًا من الماء، ثم تُغلى مرة أخرى لمدة تتراوح بين 15 و30 دقيقة ليتصاعد بخار ماء الورد من وعاء التقطير إلى أنبوب يمتد إلى خزان تبريد لا تزيد درجة حرارته عن 20 إلى 35 درجة مئوية، حتى ينتج عن هذه العملية 75 لترًا من الماء المُقطر يتدفق إلى ثلاثة أوعية زجاجية كبيرة.

ويشكِّل ضبط درجة الحرارة عاملًا مهمًا لضمان الجودة، فإذا كانت درجة الحرارة منخفضة يتجمد الماء المقطر، في حين يتسبب ارتفاع درجة الحرارة في إفقاده لونه.

اقتصاد قائم على تدوير الورد

في الأوعية الزجاجية ينفصل ناتج التقطير المكثف إلى ماء ورد وزيت ورد، حيث يتركز الزيت في الأعلى ليُسحب بعناية بمحقن، ويقوم جهاز طرد مركزي بفصل ما يتبقى من الماء في الزيت. ويحتوي وعاء ماء الورد الأول على «ماء العروس» الذي يُستخدم في منتجات التجميل، فيما يحتوي الوعاء الثاني على ماء الورد المخصص للطهي، أما الوعاء الثالث فهو لماء الورد الصالح للشرب.

وينتج عن عملية التقطير الملايين من رؤوس الأزهار المطبوخة؛ ولأن عطاء الورد ليس له حد، تبنَّت الطائف مبدأ الاقتصاد القائم على تدوير الورد، حيث بدأت بتحويل الورد المطبوخ إلى بخور الورد المعطر، أو استخدامه علفًا للحيوانات المحلية، أو سمادًا، أو غطاءً عضويًا لحماية التربة.

إمكانيات نسائية متطورة لمستقبل مزدهر

يُعد مصنع (روزيار) أحد أحدث مبادرات المواطنة في أرامكو السعودية، حيث يستخدم زيت الورد الطائفي في تصنيع منتجات العناية بالبشرة، هادفًا إلى تمكين نساء المنطقة.

وافتُتح المصنع في مطلع عام 2021م، وتعمل فيه 40 موظفة بين العمل الفني والإداري، إذ يتيح للنساء السعوديات من ذوات الدخل المحدود في المنطقة فرصة العمل مع فريق؛ لإنتاج مجموعة منتجات تجميل مُشكَّلة من ست عبوات للجسم برائحة الورد.

وقد نتج عن هذا المشروع الخيري عوائد شخصية ومالية ملحوظة. وفي هذا السياق تقول مديرة المصنع، حنان عبداللطيف: «يُنتج المصنع منتجات ذات جودة عالمية تحظى بثقة المستهلكين، كما يتيح فرص عمل كريمة للسيدات في الطائف ويوفر لهن دخلًا ماليًا ملائمًا».

وتضيف حنان: «ساعد مصنع (روزيار) على تمكين السيدات العاملات في مجال الإنتاج الصناعي، وهو مجال عمل حديث للمرأة السعودية»، مشيرة إلى أن المصنع يركِّز أيضًا على دعم الصناعات الصغيرة والأسر المنتجة.

وتقول مسؤولة التسويق والمبيعات، لمياء الغالبي، التي انضمت إلى (روزيار) في يونيو 2021م: «التسويق عبر الإنترنت قفز بأرباح المشروع إلى مليون ريال سعودي في أقل من عامين. لدى (روزيار) شريحة كبيرة من العملاء في مدينة دبي، ولديه موزِّع في المنطقة الشرقية، كما تُعرض منتجات المصنع في نقطة بيع في الباحة، هذا إلى جانب المزارع الموجودة في الطائف والمتجر الإلكتروني». ووفقًا للغالبي فإن المنتجات الأكثر مبيعًا هي غسول الجسم وعطور الجسم.

تمكينٌ يفتح آفاق الفرص

وتوضح الغالبي أن (روزيار) أعطاها خبرة في مجال التسويق والمبيعات، وتضيف قائلة: «أتاح لي (روزيار) فرصة الحصول على عرض آخر للعمل في مؤسسة تعليمية تقدم دروسًا افتراضية وكتبًا تعليمية». وتواصل حديثها وقد ارتسمت على ملامحها ابتسامة هادئة: «لدي الآن وظيفتان في نفس الوقت، ووالدي فخور بعملي الذي جعلني أعتمد على نفسي».

ودعمت أرامكو السعودية مصنع (روزيار) من خلال تهيئة أفضل المعدات وتوفيرها وصيانتها، وتأمين التراخيص والشهادات اللازمة، بما في ذلك شهادة مواصفات الهيئة العامة للغذاء والدواء التي هي بمثابة تذكرة العبور للأسواق الدولية.

ويُنتج المصنع حاليًا ما يصل إلى 100,000 وحدة سنويًا من منتجات العناية بالجسم التي تتماشى مع مواصفات الهيئة العامة للغذاء والدواء، ومن الممكن أن يؤدي نمو المشروع إلى زيادة إنتاج المصنع عبر إنشاء خطوط إنتاج ومنتجات جديدة.

السلامة والجودة

وترتدي الموظفات في مختبر مصنع (روزيار) الحديث والمزوّد بتقنيات فائقة معدات وقائية أثناء عملهن على مجموعة من المعدات الفولاذية المصقولة والمقاومة للصدأ، والتي تنتج 200 كيلوغرام يوميًا من المنتجات. وتعمل الخزانات على خلط مكونات المنتج الجافة والرطبة، وتقوم أجهزة ضغط الهواء بتعبئة الحاويات وأحواض العزل، فيما تضمن أدوات التحقق جودة المنتج، وتقوم طابعة الليزر في خطوط التعبئة والتغليف بطباعة تاريخ الانتهاء على عبوات المنتجات.

تقول المشرفة على خطوط الإنتاج في (روزيار)، وأخصائية العطور والمدربة سابقًا، عائشة الزهراني: «تُخصص المائتا كيلوغرام من الإنتاج اليومي لصناعة منتج واحد من منتجات روزيار الستة». وتضيف: «يتميز ورد الطائف بمكانته الفريدة، فرائحته تجلب معها ذكريات وتاريخًا بعيدًا».

وحول التقبّل المحلي لعمل المرأة في (روزيار)، تقول الزهراني: «نتلقى الدعم من أمهاتنا وجدّاتنا بعدما أدركنَ أننا نستطيع أن نُنتج منتجات مميزة من الورود التي لم تحظَ بأي عناية من قبل، ويمكن تشبيه الورد الذي يُسهم في صناعة مختلف المنتجات بالمرأة التي تُنجب أطفالًا رائعين».

أما فنّية التصنيع، أفنان جان، فينقسم عملها إلى نوبتي عمل. تقول جان: «أقوم في اليوم الأول بالعمل في المصنع، فيما أقوم بمهام المستودع في اليوم التالي».

وقد تخرجت جان متخصصة في التربية الخاصة، ورُشحت بعد تخرجها لحضور دورة صُنع العطور من قِبل غرفة الطائف التجارية. تقول جان: «استطعت بعد بداية المشروع أن أطبّق ما تعلمته في تلك الدورة التدريبية في مجال عملي، وقد تعمَّق فهمي لهذه الصناعة وأصبحت على دراية بعمليتي التقطير واستخلاص الزيت». وتضيف بقولها: «كنت أذهب مع أسرتي لمزارع الورد في موسم الورد، وأستمع لغناء العصافير وأسعد بقطف الورود. لورد الطائف رائحة تميزه عن غيره من الأزهار، وعندما أشتمّه، يأخذني إلى مكان آخر جميل حيث أشعر بأنني أطير كما لو كنت فراشة».

وقد صنفت أرامكو السعودية وردة الطائف الدمشقية أحد خمسة كنوز إقليمية وطنية، وذلك ضمن مبادرة الشركة في مجال المواطنة.

ويُسهم مصنع (روزيار)، الذي هو نتاج فكرة تبنّتها أرامكو السعودية وجمعية اليقظة النسائية الخيرية، في الارتقاء بجودة حياة المواطنين وحرفيي صناعة العطور في المملكة.

Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge