إطلالة

الشعر في يومه العالمي

الشعر في يومه العالمي

الشعر انفتاح على العالم وارتحال فيه، لا ينفكُّ يتجدد كلما بهتت صورته، وطغت عليه غربته.

انفتاح يمضي إلى آخره، ولا يتراجع؛ يمضي وكأنه في مهمة صعبة، هي إنقاذ العالم من السقوط في هاويته.

شعراء كثيرون استوطنت أرواحهم الشعرَ، وأثثوا لهم بيوتًا فاخرة في أرضه، واستضافوا الكثير من الناس في غرفه، وزرعوا لغتهم في حدائقه، وتركوا مجاري الأنهار تصبُّ قرب عتباته.

لكن الشعر لا يألف الاستيطان، ولا يحبُّ التوقف، ولا يرى سوى الأفق علامة على حضوره.

شعراء كثيرون، أيضًا، أخذوا بيد الشعر، مثل أعمى وعبروا به الجبال والوديان الوعرة، ولم يلتفتوا للغزاة ولا لقطاع الطرق ولا للرعاة الغرباء.

هؤلاء الشعراء خرجوا لأجل الشعر.

لكن الشعر لم يخرج لأجل نفسه، بل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من القول الذي ترتج كلمة العالم على لسانه.

شعراء كتبوا الشعر على عجالة ثم مضوا إلى حتفهم، وكأنهم أخذوا معهم قطعة من أثاثه المنزلي، حتى يستدلَّ بها عليهم، إذا ما أراد أن يسترجع ما كتبوا، كدليل على محبته.

ربما ينبغي القول إن الشعر يتسع لعوالم كثيرة وليس فقط للذين قاربوه بالكتابة، وربما أيضًا ينبغي القول إن الشعر أكبر من الحياة ومن الإنسان نفسه.

عوالمه مكثفة وصغيرة، أغلبها ينفلت من مراقبة العيون، ومن ملامسة الأيدي، ورائحة المكان.

هو مثل الضوء ينفذ في الأشياء ويغير جوهرها من العمق.

هو مثل الريح تضرب أغصان الحياة، فتكون أوراقها عرضة للولادة من جديد.

هو دائمًا يشير إلى جهةٍ، لا يمكن لها أن تُقال أو تُروى على لسان اللغة، أو الكلمات.

هو الصمت الذي يقول كلَّ شيء، ولا يقول شيئًا.

وحين يعلن الشعر عن نفسه، يكون إعلانه هو الظهور الذي لا يعلوه سطوع أو ضياء.

هو الطفل الذي لا يكبر، وإذا أراد أن يكبر، فإنه لا يكسر قوقعته، ولا يهدم جسوره، أو يتسلق شجرته.

فقط يكبر مثلما تكبر موجة وسط البحر، مثلما صقر يمد نظره صوب الأفق دون أن يتحرك، مثلما فارس يرمي سهامه في البعيد دون قوس.

يكبر ليوسع في القول وليس في الجسد، يكبر ليقول للزمن: أنت الواقف وأنا الماشي، أنت الصديق الذي أدعوه للعشاء كل ليلة، فلا العشاء ينفد، ولا هو ملّ الحضور.

حين تكون شاعرًا وتكون متهيئًا للقول، فعلى الشعر أن يرمقك بطرف عينه قبل أن يحملك على جناحيه، عليه أن يتفرس في ملامح وجهك، وعليه أن يرى تعرجات يديك حتى يتسنى له أن يختار الطريق الذي يناسبك؛ فالاختيار في النهاية هو البوصلة التي توهمنا جميعًا أننا سنلتقي بالشعر وجهًا لوجه.

 

محمد الحرز، شاعر وكاتب سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge