إطلالة

سبعة أيام من العزلة

سبعة أيام من العزلة

كل الحكاية تبدأ بمسحة، عود خشبي طويل يقتحم خصوصية بلعومك فيعلن للعالم أنك الآن مصدر خطر، وأنك أصبحتَ «مستعمرة» لدى العدو الجبّار المتناهي في الصغر، الذي لا يُرى بالعين المجردة، مما يمنحك تذكرة مستعجلة باتجاه العزلة.

كامرأة مؤمنة بالعلم حصَلَتْ على تحصيناتها، أغلقتُ الباب خلفي بكامل طمأنينتي وأخذت نفسًا طويلًا جدًا كسفينة شقت عباب البحار أربعين عامًا ووصلت أخيرًا إلى مرفأ. ومنذ الوهلة الأولى تذوقتُ حرية الأبواب المغلقة، التخفف من كل شيء وكل أحد، امتلاك الوقت كاملًا حتى وإن كان ينازعك عليه القليل من الوهن والتعب، إخراس ضجيج العالم والإصغاء إلى موسيقاي الداخلية المحملة بالشجن، وقضاء الوقت مع أهم شخص في رحلتي الأرضية الثرية، قضاء الوقت مع نفسي.

يقول الشاعر جاسم الصحيح: «وعلّمني السقوطُ ببئر نفسي بأن الماءَ في الأعماق أحلى» وهكذا؛ اتخذتُ من عزلتي ذريعة للذهاب في رحلة غوص إلى أعماق ذاتي لعلي أجد بعض الكنوز الدفينة التي لم أعلم بوجودها أو لعلي أخلق بعض التحف، فكما يقول طبيب النفس البريطاني آنتوني ستور: «إن أجمل لحظات المبدع هي تلك التي يحرز فيها شيئًا من التبصر، أو تلك التي يبتكر فيها اكتشافات جديدة، وهذه اللحظات هي في الغالب إن لم يكن دائمًا تلك التي يكون فيها وحيدًا».

أنظر إلى الماضي الممتد أمامي فأجد لحظات التنوير والإلهام والكشوفات العظيمة، بل وحتى تلقي «الوحي» غالبـًا لا تأتي إلا في سويعات وأيام الخلوة، فأدرك أن للخلوة الترددات الموجية المناسبة للاستقبال، والمناسبة لتوقيف تروس الماكينة الشرسة التي تسحق أناك فلا تعرف وأنت الغارق في حمحمتها أي أجزائك رحل وأيها بقي. وهي المناسبة أيضًا لإعادة التشغيل و«ضبط إعدادات المصنع». عندها أتلذذ أكثر بهدير الصمت، برحابة الجدران الأربعة، بالرفقة الخاصة جدًا في محاولة جادة لتحسين سمعة العزلة التي أسيء لها كثيرًا وجدًا في الآونة الأخيرة.

فإن كنت عزيزي القارئ تعيش الآن أو أحد أعزائك تجربة مشابهة، أرجوك غير النظارة التي تنظر بها إلى ظرفك الطارئ واستمتع بعزلتك! امنحها فرصة العزف علـى أوتار روحك، وأن ترمم ما هدّه انشغالك بالخارج بدلًا من الداخل، واعتبرها منحة فريدة من نوعها بدل أن تراها محنة.

المهم قبل أن أختم هذه السطور وإبراءً للذمة عليّ أن أُقرَّ أن عزلةً مع جهاز ذكي متصل بكل العالم بالصوت والصورة ليست العزلة الكلاسيكية التي يُعوّل عليها أو يخشى منها على حدٍ سواء. هناك مقولة تقول: «إن كنتَ وحيدًا في عزلتك فأنتَ محاط بأشخاص سيئين»، أما أنا فكنت محاطة بأشخاص رائعين جدًا، محبين جدًا وكرماء حتى وإن كان ذلك من وراء حجاب؛ ففي اللحظة التي أغلقت باب محجري أشرعوا جميعًا أبواب قلوبهم لي.

 
سلمى بوخمسين، كاتبة وقاصة سعودية.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge