الفن.. لغة المشاعر الصادقة وأداةٌ تصنع الأثر

الفن.. لغة المشاعر الصادقة وأداةٌ تصنع الأثر

الفن بمختلف أنواعه هو ترجمان للمشاعر والأحاسيس؛ ليس بمعنى أنك تدرك من خلاله إحساس الفنان إدراكًا سطحيًا مجرَّدًا، بل بمعنى أنك تشعر بالإحساس النابع من قلب مُبدع الفن في لحظة الانكسار أو الغضب، أو الفرح أو الأمل، كما يحدث ذلك أحيانًا عندما تستمع إلى الموسيقى أو تقرأ الشعر أو تنظر إلى لوحة فنية.

وهكذا، قد يجعلك الفن تنفصل عن الواقع، وكأنك تتقمص روح الفنان في جسدك، فإذا بك تشعر بالمرارة والألم لفقد شخص لا تعرفه، أو تستشعر الرهبة والخوف من قساوة الحرب رغم نأيك عنها، أو تحلِّق في عالم مليء بالأمل، لترسم أحلامًا ملوَّنة لمستقبل مشرق. هذه هي هبة الفن، التي قد لا يستطيع الجميع إتقان صنعها، لكن كل من لديه الرغبة يستطيع تذوق جمالها بقدر ما عنده من طاقة ومعرفة.

من الشعور إلى تبني القضية

وقد لا يقتصر الهدف من وراء الفن على مجرَّد إيقاظ حالة الشعور الوجدانية لدى المتلقي، بل قد يرمي العمل الفني إلى ما وراء ذلك؛ إلى أن يجعلك تتبنى القضية التي يدافع عنها، سواء أكانت تلامسك بارتباطها المباشر بك أم لا، وكأنه يدفع بك إلى جانب من الحياة لم تكن ولجته من قبل.

فعلى سبيل المثال، عند قراءتك لبعض قصائد الشاعرة الأمريكية، فرانسيس واتكينز هاربر، قد تشعر بنفسك وأنت تتخذ موقفًا مباشرًا ضد العنصرية والاضطهاد؛ وهذا الشعور قد تُثيره هذه القصائد عند أحد أبناء المملكة في القرن الحادي والعشرين، تمامًا كما لو كان قد عاصر القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة الأمريكية.

هاربر وُلدت عام 1825م في مدينة بالتمور بولاية ماريلاند الأمريكية، حيث كان نظام العبودية جائزًا آنذاك، وعالجت في قصائدها بعض القضايا الاجتماعية الجادة، كتعليم المرأة وإعادة الإعمار والمساواة والمسؤولية الاجتماعية، من خلال وصف دقيق لظروف المعيشة القاسية التي واجهتها بعض فئات المجتمع خلال فترة العبودية.

وقد كان تأثير تلك القصائد واضحًا حينها، فقد حصلت هاربر على تأييد ودعم كبير من المناهضين ضد التمييز العرقي، وقدَّم كثيرون الدعم المادي لمساندة المضطهدين في بناء حياة كريمة لهم.

ومن أشهر أشعارها قصيدة (ادفني في أرض حرة)، التي كتبتها بعد رفضها التخلي عن مقعدها، أو الركوب في القسم المخصص لذوي البشرة غير البيضاء من القطار في فيلادلفيا، ومنها هذا المقطع:

«اجعل لي قبرًا أينما شئت
في سهل منخفض أو تل مرتفع..
اجعله من بين القبور الأكثر تواضعًا على الأرض
لكن، ليس في أرض حيث الرجال عبيد..»

الفن.. نصير الفقير

ومن القضايا التي أثارها الشعر العربي عبر مراحله المختلفة قضية الفقر، حيث تناولها الشعراء بهدف خلق حالة من التعاطف بما قد ينعكس على الواقع بشيء من التغيير. وهكذا نجد في شعر صفي الدين الحلي، مثلًا، وصفًا للفقر وللفقراء وحياتهم، حيث يقول:

«إنَّ الفقيرَ وإن نمَتهُ مكارمٌ وفَضائلُ
لا يُستعانُ به ولايُعبا بما هو قائلُ
لو كان سحبانَ البلاغة أنكرَتهُ وائلُ
أو كانَ قِسًّا في الفصاحة قِيلَ هـذا بَاقلُ»

هذا الوصف لما يمر به الفقراء من استنقاص بسبب إمكاناتهم المادية المحدودة، يعالجه أيضًا العباس بن الأحنف بطريقة مختلفة في قوله

«يمشي الفقيرُ وكلُّ شيء ضدُّهُ
والناس تُغلِقُ دونَهُ أبوابَها
وتَراهُ مبغوضًا وليس بمُذنبٍ
ويرى العداوةَ لا يَرى أسبابَها!
حتَّى الكِلاب إِذا رأت ذا ثروةٍ
خَضَعت لديه وحرَّكت أذنابَها
وإِذا رأت يومًا فقيرًا عابرًا
نَبَحت عليه وكشَّرت أنيابَها»

وعلى الرغم من الفارق الزمني الفاصل بيننا وبين وقت كتابة تلك الأبيات، إلا أننا بقراءتنا لها نستشعر جانبًا قد لا نكون مدركين له بالضرورة، كما قد يدفعنا التأمل فيها إلى التساؤل: هل لا تزال الطبقية موجودة في تعاملاتنا الاجتماعية؟

إلهامٌ وأمل

وبعيدًا عن القضايا العامة، للفن أحيانًا تأثير شخصيٌ مباشر على متذوقيه، حيث يُلهمهم لإحداث الفارق في حياتهم الخاصة، والتغلب على الصعاب التي تواجههم، مثلما حدث للمغني والكاتب الشهير، ستيفي وندر، ولمعجبيه.

وندر فقد بصره بعد بضع ساعات من ولادته، ورغم ذلك أجاد استخدام الآلات الموسيقية وكتابة الأغاني في سن 13 عامًا، فكان ذلك بمثابة المتنفس الذي يلجأ إليه، والأداة التي يسعى من خلالها إلى مساعدة الناس والوقوف بجانبهم في أشد الظروف.

وقد نجح وندر بالفعل في مسعاه، حيث حصل على رسائل من بعض المعجبين، تخبره بمدى التأثير الذي أحدثته أغانيه في حياتهم، ومنهم الجنوب إفريقية، نومسا، التي وجدت في أغانيه ملهمًا لها في رحلة البحث عن الحرية، ومحاولة التخلص من التمييز العرقي المستمر في تلك الفترة.

كما أثَّرت أغاني وندر أيضًا في براين، الذي قرر الالتحاق بكلية القانون للدفاع عن المساجين المظلومين بسبب لون بشرتهم، ليُساعد في إخراج أكثر من 140 سجينًا، حيث أُعيدت محاكمتهم، ليتبين عدم وجود أدلة تدينهم بالجرائم الموجهة إليهم.

Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge