الجرافيتي.. فنٌّ أم شغبٌ على الاتزان الجمالي؟

الجرافيتي.. فنٌّ أم شغبٌ على الاتزان الجمالي؟

يستعيد فن الكتابة على الجدران، أو الجرافيتي، إبداعات كامنة في الكهوف منذ آلاف السنوات، فالإنسان القديم وإن لم يستوعب الرؤية الفنية في تلك الكتابة بوصفها أداة اتصال، إلا أنه نجح في وضع ملامح تجربة إبداعية عبرت مع الزمن حتى ستينيات القرن الماضي، بظهورها على الجدران في مدينة فيلادلفيا الأمريكية، لا كلغة تعبير كما فعل الأقدمون، وإنما كنمط تعبير فني عن حالة من الاحتجاج.

ارتبكت مدينة نيويورك تحديدًا في التعاطي مع هذا الفن، فرغم استخدام مصطلح "الجرافيتي" لأول مرة من قبل صحيفة نيويورك تايمز والروائي نورمان ميلر، إلا أن عمدة المدينة أعلن الحرب في أوائل السبعينيات على هذا الفن، غير مكترث باتخاذه شكلًا فنيًا جديدًا بدأت المعارض الفنية في نيويورك بشراء رسوماته.

ولم تتوقف تلك المدينة عن رفض فن الجرافيتي ولا تزال مستمرة في مناهضته، إذ إن الآراء انقمست حوله فيما إذا كان فنًا أم تخريبًا. ولكن بيتر فالون، عضو مجلس مدينة نيويورك، توصل إلى حل وسط يقضي أنه في حال رُسم "الجرافيتي" بإذن فإنه يمكن أن يُعد فنًا، أما إذا كانت ممارسته على ممتلكات شخص آخر بغير إذن، فإنه يصبح جريمة.

إبداعٌ واحتجاج

وبوصفه فنًا اخترق الحدود الأمريكية، وأصبح عالميًا مع كثير من الإبداعات والمبدعين الذين قدموا أعمالهم في الشوارع والجدران، فقد اكتسب "الجرافيتي" كثيرًا من الاحترام في الثمانينيات، وبرز فيه الفرنسي بليك لو رات، والبريطاني بانكسي، اللذَين حققا شهرة عالمية من خلال إنتاج أعمال معقدة، ما جعل هذا الفن يبدو في بعض الأحيان تجارة رائجة.

ويتداخل "الجرافيتي" مع فن الشارع حتى لا يبدو أن هناك فرقًا بينهما، ولكنهما يختلفان في حقيقتهما الفنية، ففن الشارع يعتمد على الصور ويستمد إلهامه من "الجرافيتي"، الذي يعتمد على الكلمات التي يتم رسمها بأسلوب متقن. لكن الصور استُخدمت في الأنماط الفنية المتأخرة من "الجرافيتي"، وذلك ما منح الفنانين كثيرًا من الخيارات الإبداعية التي جعلت أعمالهم ذات قيمة فنية كبيرة.

وتمثِّل رسومات "الجرافيتي" إحدى أكثر أنواع الفنون حداثة، ولكنها لم تتخلص من فكرة التخريب أو الشغب على الاتزان الجمالي في المدن، ما يجعلها بعيدة حتى الآن عن الاعتراف المناسب بها كفن يحمل كثيرًا من التفريغ الإبداعي، خاصة مع المظهر الاحتجاجي الصارخ في رسوماتها.

بانكسي.. الفنان الهارب

في رسومات البريطاني بانكسي، على سبيل المثال، يكمن تحدٍّ قد لا يكون مفضلًا لدى كثيرين، فلطالما ظل فنان الجرافيتي هذا مطاردًا بمبدأ تشويه الجدران، حتى إنه رسم الجرذان التي يحبها في جدران منزله، وهي حالة تتماس مع الهوس والهروب بالحالة الإبداعية، والعبث بها في أضيق الأماكن، ولا غرابة في ذلك إذا كانت هويته الحقيقية غير معروفة حتى الآن.

وبغض النظر عن حاجة بانكسي للجرذان للتعبير عن رؤيته المحتجّة، إلا أن الاستخدام الفني يعكس كثيرًا من المشاعر المكتومة، التي تضيق بالفنان الذي يمارس الهروب إلى الأمام، حيث يحتاج إلى سقفٍ عالٍ للتعبير عن أفكاره الفنية، وذلك ما لم يتوفر لجميع فناني "الجرافيتي"، سواء حصلوا على إذن كما تطلب نيويورك، أو أفرغوا شحناتهم الفنية في جدران منازلهم.

ومع كثير من المظاهر الاحتجاجية حول العالم، يزداد نطاق فن "الجرافيتي" ليجد كثيرٌ من الرسامين مسارات تبرز قدراتهم الفنية والإبداعية، حيث تُغني الصورة عن ألف كلمة، وذلك ما جعل كلمات الجدران تقل وتتحول إلى صورة لا تعبّر فقط عن الفنان، وإنما عن كثيرين من خلفه، يلتقون في مضمون اللوحة التي يبدعها الفنان، الذي يجد في كل جدار إطارًا ومرسمًا، وبداية لمشروع لوحة فنية لا تحتاج منه إلى كثير لإنجازها في أقل وقت وبأقل جهد، ولكن بأكبر قيمة فنية، وذلك ما يجعله أحد فنون المستقبل واسعة الانتشار.

Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge