إطلالة

عالمنا لا نحياه بلا كتابة

عالمنا لا نحياه بلا كتابة

لا يمكن أن يتصور الواحد منا، ولو من باب التخيل، وجودَ مجتمعات تخلو من الكتابة في شتى المجالات، أو أن الكتابة في حد ذاتها ليست قائمة، لا في ثقافة المجتمع ولا في تعليمه أوتربيته.

يخبرنا تاريخ الكتابة أن المرحلة الشفهية قد انتهت عند المجتمعات كافة، ولم يترك التطور الحضاري للإنسان موطأ قدم لتلك المرحلة لتؤثر في ثقافة المجتمعات المعاصرة، وبالتالي تصرفه عن قوة تأثيرها وتغلغلها في مفاصل الثقافة، اللهم إلا لدى بعض القبائل التي ما زالت تعيش على هامش الحضارة، في بعض المناطق النائية من العالم.

لقد أصبحت الكتابة إحدى المسلّمات الكبرى التي تمتاز بها الثقافة المعاصرة، من حيث كونها غدت جزءًا لا يتجزأ في تفاصيل حياتنا اليومية؛ إذ يكفي أن نشير إلى أن لوحة مفاتيح الكمبيوتر (الكيبورد) أصبحت الأداة التي لا يمكن تخيل الاستغناء عنها أبدًا، في إنجاز أغلب معاملاتنا اليومية، ناهيك عن ارتباطها الكبير بالتطور التقني المتسارع الذي يشهده العالم أجمع.

لكن الجانب الذي يهمني من التطرق إلى عالم الكتابة هو جانبها الإبداعي الإنساني الذي خلّف وراءه إرثًا إبداعيًا يشكّل في مجمله تاريخ الإنسان في التعبير عن تحولاته إزاء الحياة والعالم والكون، بإظهار مكنوناته النفسية والروحية ومشاعره وتقلباتها.

وهذا ما يعطي للكتابة صفة الذاكرة الكبرى للبشرية جمعاء، التي لا تعادلها أي ذاكرة يمكن أن يخترعها الإنسان، ولو مستقبلًا.

لكن ثمة تمايز واختلاف بين مجتمع وآخر، فيما يخص موقع الكتابة (باعتبارها تعبيرًا إنسانيًا بالدرجة الأولى) وقيمتها وأهميتها، فالبعض لا تحتل عندهم المراتب الأولى من سلم القيم الاجتماعية والثقافية، فترى أصحاب المواهب الكتابية في صنوف الإبداع لا يشكلون قوة ناعمة، ولا يتمتعون بقيمة اجتماعية مميزة، عكس الحال عند الذين يضعونها في المراتب الأولى في سلم قيمهم، فترى المشتغلين بالكتابة مقدمين ثقافيًا واجتماعيًا في كل المناسبات.

وضمن هذا الإطار، هناك مهرجان شعري عالمي يُقام في إحدى دول أمريكا الجنوبية، تخصص فيه المقاعد الأمامية، في يوم افتتاح المهرجان، للشعراء الكبار من البلد ومن ضيوفه، وخلفهم يأتي المسؤولون من كبار الشخصيات. هذا الموقف معبّر تمامًا عن الفرق بين القيمتين.

أيضًا هناك اختلاف نقع عليه حينما ندرك أن الفكرة الشائعة عن الكتابة هو أن المبدع يلجأ إليها بدافع الحزن والمكبوتات النفسية والوحدة والخوف..إلخ من مجموع هذه العوامل. لكن لم تعد هذه الفكرة تنطبق على كل الأفراد أو المجتمعات، فهي تختلف وتتفاوت في صفاتها الروحية والثقافية والبيئية. وهناك من الأفراد من يكتبون بدافع الفرح والمحبة الإنسانية، حتى لتشعر أنهم من عالم آخر، ليس فيه من صفات البشرية وتناقضاتها ما يطل برأسه.

 

محمد الحرز، شاعر وكاتب سعودي.
 زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge