فقط حينما يتمكن منك المرض، ستجد نفسك قد سقطت في قاع اللامبالاة بشيء من ملذات هذا العمر. لا يهمك أن ترتب ألفاظك في الحديث أمام الآخرين كالمعتاد، ولا أن تخرج على الناس في كامل الأناقة، ولا يعنيك أن تكون مخطوفًا على رمش فتاة جميلة قد تهب إليك نظرة إعجاب عابرة تعيد بها ترتيب فوضاك الداخلية.
تمرُّ قوافل الأفكار على سكة ذهنك وتطرق باب ذاكرتك بقبضة من الأسئلة الحادة التي قد لا تزورك إلا وأنت على هذه الحال: ما قيمة أن أتشاحن أو أتدابر أو أخطط للانتقام بعد الوعيد؟ ما قيمة أن أحيا على قيد شعور زائف؟ ثم فجأة يلسعك سؤال لسعة جمر لاهب: هل سأعود إلى ما كنتُ عليه قبل الآن من الصحة والعافية؟
لمن أدين بالفضل في استقرار حالي بعد الله تعالى؟ وهل لي أن أنقل أحزاني إلى قصور أفراح الآخرين؟ ومن سيحمل عني هذا العبء وهو محمّل بشاحنة من الهموم الثقيلة الوزن؟ هل السعادة تكمن في المِنن المتوالية من المال والأسفار؟ أم أنها هنا في تفاصيل عمري الصغيرة؛ كأن أمازح العامل الذي صادفته فجأة يكنس العتبات أمام باب داري، أو أن أضاحك أطفالي حين أعود إلى المنزل ثم أصطحبهم في رحلة قصيرة إلى حديقة الحيوانات المجاورة أو المقهى القريب.
وبما أنني شديد الهشاشة، قابل للكسر سريعًا مثل كأس زجاجي يخرُّ على الرخام، فكيف لي أن أرمم روحي المتشظية من فعل هذا الوقت، سوى بأن أعمّق إدراكي بما أنا فيه من النعم التي تموج في محيطات عمري (الصحة والأسرة والأهل والأصدقاء وغيرها). كل هذا المزيج يمكن له أن يستبدل عنفوان البحر في داخلي إلى سكينة وهدوء. كل ذلك يجعل الطمأنينة تمد أشرعتها في بحر أيامي وتأخذني على متنها إلى شاطئ حالم أنعم فيه بالراحة.
قالت لي الحمّى: عليك أن تُظهر امتنانك للصحة، وأن تدرك القيمة المثلى في باقات الورد التي يقدمها لك الأصدقاء، على أنها مقتطفة من بساتين عواطفهم لا أنها مصنوعة من البلاستيك أو حتى مقطوفة من الحقل القريب.
قالت لي الحمّى: تنفّس جيدًا، فأنت الآن كائن بلّوريّ شفاف، وسوف يغسلك المرض كما يغسل الأذانُ أرواح المؤمنين وهو يهطل بغزارة من شفاه المآذن، وسوف تعود نقيًا من كل شوائب هذا العمر الذي لا خير فيه من دون الحُب، فالحُب هو إكسير هذا الوجود ورونقه وبهاؤه.
جاسم عساكر: شاعر وكاتب سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.