إطلالة

القرية خزانةُ الروح

القرية خزانةُ الروح

علاقتي بالقرية هي ذاتُـها علاقتي بالتشكُّل الأوَّل في مختبر الحياة منذ مسقط الرأس حتى نهاية مرحلة الطفولة التي يربطها ببقيَّة المراحل حبلٌ سريٌّ لا ينقطع حتى آخر لحظة من لحظات العمر. هذا يعني أنَّ علاقتي بالقرية هي علاقتي بالبئر الأولى التي استقيتُ منها أحلامي، وصنعتُ فيها وجداني، واكتسبتُ منها البناء الإنسانيَّ الحقيقيَّ في حياتي. لذلك، كلُّ شيءٍ حقيقيٍّ في أيِّ مرحلةٍ من مراحل العمر يُشعِرُني بطفولتي، ويعيدني إليها حيث إنَّنا نحن البشر نـهاجر عن الحقيقة عندما نهاجر عن الطفولة، وكلُّ أعمالنا يشوبـها شيء من الزيف؛ ومهما حاولنا أن نتصنَّع البراءةَ في غير أوانِـها، فلن تأتي بحجم البراءة الأولى.

وهكذا أستطيع أن أدَّعي أنَّ الشعر هو طريقٌ يعود بي إلى الطفولة، ومسقط الرأس، والقرية، والحقيقة في حياتي. إذنْ، أنا أكتب كي أتحوَّل إلى طفل، وأعيش معاني طفولتي مجدَّدا، وأعود إلى سِكَكِ قريتي وحواريها وأزقَّتها، وإلى ملاعب كرة القدم، والمساجد، والأصدقاء الأوائل، والمدراس، والحقول، وكلِّ العناصر التي تكوِّن القرية.

علاقتي بقريتي هي كذلك علاقتي بالإحساس الأوَّل بسحر العالم ومفارقاته المأساوية، فالعالم بمقدار ما هو جميل وساحر، هو مأساويٌّ أيضا، وأعظم تجليَّات المأساة يكمن في الفقد، سواءً في فقدِ الأصدقاء أو الأهل أو ما نملك، أو في فقدِ القدرة على تحقيق ذواتنا، وهذا يجعلنا دائما نستعين بالخيالات والأحلام كي نكمل النقص الوجوديَّ الذي يسبِّبه هذا الفقد. علاقتي بقريتي هي علاقتي بأصلِ الوجود، بغضِّ النظر عن كون الوجود ذاته نعمةً أو نقمةً، على اختلاف ما قاله الفلاسفة والشعراء في هذا المجال. لكنَّ الوجود هو هديَّة من الغيب، وعلينا أن نعرف كيف نحافظ على هذه الهديَّة. ولذلك، أنا أُدين للقرية بوصفي أُدين للمكان الذي اسْتَقْبَلْتُ فيه أعظمَ هديَّة يمكن أن أستلمَها وهي الحياة.

علاقتي بقريتي هي ذاتُـها علاقتي بملامحي وصورتي وجوهري وطباعي في تشكُّلها الطفوليِّ؛ فأنا أخذتُ ملامحها، وهويَّتها، وسحنةَ رملها، وتضاريسَ جغرافيتها، وطبيعةَ مائها، ونداوةَ حقولها، وهذا يعني أنَّه أصبح هناك ما يشبه التماهي الكامل بيني وبينها، فالقريةُ أنا وأنا القرية. لذلك، السؤال: هل تحبُّ قريتك؟ يشبه السؤال: هل تحبُّ نفسك؟

علاقتي بالقرية هي ذاتُـها علاقتي بثراء الروح وصفاء الوجدان؛ أيْ العلاقة التي تنبع من العمق، وتنظر إلى القرية بوصفها خزانةَ الروحانيَّة التي يلجأ إليها الإنسانُ كلما رانت عليه المادَّة؛ فالقريةُ هنا معنًى أكثر منها مبنًى، مهما طغت عليها الحداثة وتحوَّلتْ إلى مدينةٍ. القرية عميقةٌ في فرحها وحزنـها وجرحها ووفائها وحبها وعطائها وكلِّ ما ينتمي إلى القيم الإنسانية. هي عميقةٌ في معانيها الداخليَّة وكبيرةٌ في هذه القيم؛ بينما كمدينةٍ، هي كبيرةٌ في مبانيها الخارجيَّة فقط، لأن المدن صحاري تتيه فيها القيم الإنسانية، ويضيع الإنسان فيبقى يعيش خارج ذاته باحثا عنها دون جدوى؛ فما أفقرَ وما أَضْيَعَ وما أشقَى مَنْ لا قريةَ له!


جاسم الصحيح، شاعر سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge