في كثير من الأحيان أجد نفسي في دوامة التساؤل التالي: لماذا بعض ذكرياتنا منذ طفولتنا المبكرة تظل عالقة في الذهن دون غيرها، رغم تباعد السنين وكثرة الأحداث التي تسجلها الذاكرة، وآفة النسيان التي لا تبقي ولا تذر؟
لا أريد أن ألتمس الإجابة من خطابات علماء النفس أو علماء الاجتماع أو من الذين تخصصوا في النفس البشرية واهتموا بدراستها من جميع الزوايا والاتجاهات. لقد سال كثير من الحبر حول هذه المسألة، فأُنشئت مدارس ونظريات وفُندت أخرى. لكنني أريد الانطلاق من تجربة شخصية، ثم أبني عليها قناعتي لاحقًا.
ثمة ذكريات بعينها تزورني كلما فتحت باب الطفولة، وكأنها كامنة خلف الباب، بانتظار يدٍ ما تفتحه؛ كي تندفع بقوة إلى الخارج، حتى تظن أنْ لا ذكريات ترتبط بطفولتك غيرها. وهو ظن كما أعتقد فيه شيء من الوهم، لأن مثل هذه الذكريات لا تمنحك الفرصة لكي ترفع رأسك، وتجول بعينيك في أرجاء بيت الذاكرة، وتلمس بيديك هذا الجدار أو ذاك، أو تتعثر بحصى هذه الغرفة أو تلك. لا شيء من ذلك يحدث أمام قوة واندفاعة تلك الذكريات.
كنت في السابعة من العمر. ربما أقل من ذلك أو أكثر، وكان جدي، بعد أن يعود من سفره بعد طول غياب - وكان حكّاء ماهرًا - يروي الحكايات والقصص التاريخية الأسطورية بطريقة تجعلنا أنا وأخوتي مشدودين إلى تفاصيل وجهه أكثر من الانشداد إلى القصص نفسها.
من موقعي الآن أتأمل هذه التفاصيل وكأنها تحدث للتو واللحظة بينما هناك ذكريات كثيرة حدثت لاحقًا وكانت مفصلية في حياتي، أتذكرها لكن ليس بكل ما فيها من التفاصيل.
ثم اكتشفت أنني لست وحدي الذي يمر بهذه الحالة، فبعض الأصدقاء قد مروا بنفس التجربة على اختلاف مرجعياتهم الثقافية والتربوية. أيضًا، لمست ذلك فيما وقعت عليه يدي من كتب الذكريات عند بعض الأدباء والشعراء والمفكرين والعلماء. عندها تكونت عندي قناعة مفادها أن أحداث الذاكرة عند الشخص عندما تُروى بطريقة قصصية مؤثرة، فإن ما يُروى يظل عالقًا في الذاكرة أكثر من الحدث نفسه؛ فالحدث قد تغيب تفاصيله. لكن طريقة سرد الحدث هي الأكثر حضورًا وقوة ورسوخًا.
لذا فإن هذا النوع من الذكريات المسرودة، إما أن تحضر بقوة من خلال ما يتهيأ لها من أسباب ومنعة كحالة ذكرياتي، وإما أن يمتلك الشخص نفسه موهبة الراوي والسارد، بحيث يتمكن من سرد ذكريات حياته بعد أن يحولها على هيئة قصص وحكايات.
وما يؤكد هذه القناعة لديّ أكثر هو أن حياتنا منذ المولد إلى الممات ليست سوى سلسلة من القصص المتتابعة، ومن تكون قصته أكثر إبهارًا وإبداعًا، فإن الفن يحاول محاكاتها ومن ثم تحويلها إلى أيقونة خالدة في الذاكرة. وهذا ما تقوم به السينما بامتياز.
محمد الحرز، كاتب وشاعر سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.