هناك إجماع بين العلماء على أن بدء التدريب مبكرًا منذ الطفولة هو ضروريٌ للوصول إلى مستوى عالٍ من المهارة والخبرة في عديد من المجالات، خاصة في الموسيقى والرياضة. كما أجمعوا حول سبب ذلك قبل أن يفترقوا حديثًا.
فمنذ أواخر القرن الماضي، أظهرت دراسات علمية من مختلف التخصصات، أن السبب الرئيس لذلك هو فترة حساسة في الطفولة المبكرة، وهي فترة محدودة من التطوُّر، تكون خلالها تأثيرات التجربة على الدماغ قوية بشكل غير عادي. وتماشيًا مع هذا المفهوم، اقترحت الأبحاث أن التدريب الموسيقي خلال هذه الفترة يمكن أن يؤدي إلى إعادة تشكيل الدوائر العصبية مع فوائد طويلة الأمد على صعيد الأداء في وقت لاحق من الحياة.
لكن، ومنذ عام 2019م، بدأت تظهر شكوك بهذه النتائج، تأكدت في دراسة حديثة واسعة من «جمعية العلوم النفسية الأمريكية»، نشرت في مجلة «سيكولوجيكال ساينس» في ديسمبر 2020م، أثبتت أهمية التدريب المبكر، لكن أسباب ذلك هي غير ما كان يُعتقد سابقًا، بل إنه أبسط من ذلك.
ولتفكيك المؤثرات في النبوغ الموسيقي، جندت لورا ويسسيلتجيك وزملاؤها من الجامعة الأمريكية في أمستردام، 310 موسيقيين محترفين من مختلف المؤسسات الموسيقية السويدية، مثل مدارس الأوركسترا والموسيقى. ثم تم اختبار المشاركين بسلسلة من الأسئلة التي تقيس عدد المرات التي يمارسون فيها التدريب وعمر بدء التدريب الموسيقي وغير ذلك. واستخدم الباحثون أيضًا بيانات من أبحاث سابقة حول التوائم الكبار التي قدَّمت معلومات وراثية وعلاقتها بالمهارات. وخلصوا إلى أن سن البدء المبكر مرتبط بالكفاءة الموسيقية، سواء لدى الهواة أو الموسيقيين المحترفين، حتى بعد التحكم في وقت التدريب المتراكم لاحقًا.
كما أشارت نتائج الدراسة إلى أن العوامل الوراثية، المتعلقة بالشغف والموهبة للموسيقيين، لها تأثير كبير على عمر الأفراد الذين يبدؤون في ممارسة الموسيقى واستعدادهم في المستقبل. وهكذا فإن العوامل الأسرية، أي التأثيرات الجينية والبيئية المشتركة، مثل البيئة المنزلية المشبعة بالموسيقى، هي العامل الرئيس. ولم يكن هناك ارتباط إضافي، كالدوائر العصبية في الدماغ وغيرها، بين سن البداية المبكرة والموسيقى.
قد يكون التفسير المحتمل لهذه النتائج هو أن الأطفال الذين يظهرون مزيدًا من المواهب في مجال معيَّن، مثل الموسيقى، يتم تشجيعهم على البدء في التدريب في وقت مبكر. والاحتمال الآخر هو أن الأسرة النشطة والموهوبة موسيقيًا توفر بيئة موسيقية للطفل، إضافة إلى توريث ميولها الموسيقية جينيًا إليه. إذن السبيل إلى النجاح في مجال الموسيقى هي العوامل الأسرية الجينية والبيئية وليس التحوُّلات في الخلايا العصبية في الدماغ.
نشر في مجلة القافلة عدد يناير/ فبراير2021 م