قبل فترة قصيرة انتشر على موقع التواصل الاجتماعي مقطع مجتزأ من البرنامج التلفزيوني الشهير (المشَّاء) وفيه كلام حول الترجمة من العربية إلى الألمانية، حيث ذكرتْ ضيفة البرنامج المترجمة الألمانية السيدة «كلاوديا أوت» والتي ترجمت كتاب (ألف ليلة وليلة) إلى الألمانية، أنها واجهت مشاكل في ترجمة (ألف ليلة وليلة)، وخاصة في نقل الأشعار والقصائد العربية إلى الألمانية، فلجأتْ إلى أن تجرِّب طريقة في المحافظة على الوزن العربي أثناء ترجمته، وهي كتابة النص الألماني بالوزن الشعري الأصلي للقصيدة العربية، وقرأت مثالًا على وزن البحر الطويل (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن)، وهو:
تمنَّيتُ من أهوَى فلمَّا رأيتُهُ
ذُهلتُ، فلم أملكْ لسانًا، ولا طَرفا
إلى آخر الأبيات، محاولة اختيار مفردات ألمانية تترجم هذا البيت بنفس وزن الطويل، فأخذت تنطق بالألمانية في حالة من الانسجام مع الوزن العربي بمهارة؛ ممَّا جعل الكثير من المعلّقين على المقطع يبدون إعجابهم ودهشتهم.
خطرت في بالي أسئلة وأنا أستمع إلى هذه المحاولة في تطويع الوزن العربي بكلمات ألمانية، من ذلك:
هل سيكون أثر الإيقاع العربي على الألماني كما هو علينا؟ وبسؤال آخر، هل سيصل الإيقاع إلى الألماني ويلتفت إليه، وبالتالي يكون الإيقاع العربي عنصرًا جاذبًا حتى في مفردات من غير لغته رغم اختلاف خصائص الموسيقى والإيقاع بين اللسانين؟
هذا الرنين الذي تشرَّبته الأذن العربية منذ امرئ القيس حتى يومنا هذا، لم يكن رنينًا وحسب، إنه حالة من الحنين والبهجة ومن الطرب والشجن ومن الذكريات والحلم كلها ارتبطت بجرس الكلمات وأصوات الحروف وتفاعلها مع بعضها بعضًا، وكذلك طريقة الترنم والإنشاد.
إنها خاصية عربيَّة بامتياز، فهل من الممكن نقلها هكذا في ألفاظ لا تحمل كل هذه السمات إلى لغة أخرى؟ هل أقول إن السيدة (كلاوديا أوت) تكلَّفت الأمر، وكان عليها أن تلجأ إلى خصائص الشعر الألماني لتسكب المعنى في ترنيمة ألمانية، بدلًا من هذا التجريب الذي يجني على المعنى.
لا شكَّ أن المحاولة طريفة بالنسبة لنا، ولكن لا أتصور أنها ستنقل إحساس العربي بالبحور الشعرية لإنسان آخر له جمله التي يطرب لها، وهذه مسألة تعيدنا إلى جوهر العلمية في الترجمة، وهو ما الغاية من الترجمة؟
الترجمة عمل تتداخل فيها أشياء كثيرة، ولكن في وظيفتها الأساس تقوم بالتفسير والشرح من أجل إيصال معنى النص الأصلي إلى لغة أخرى، وهذا ما اصطلح عليه بالتَّرجمة بتصرُّف، أَو ما يدعى بالتَّرجمة الحرَّة: وهي إِدراك المعنَى الأَجنبي وصبُّه بقالبٍ آخَر مناسب للعربيَّة.
الكثير ممن اشتغل على الترجمة يعلم أن التَّرجمة الحَرفيَّة تبعد المعنَى أَحيانًا، وقد تقلبه رأسًا على عقب إذا التزمنا بما يعرف بالأمانة الحرفية، فلا بدَّ من خيانة في الشكل لأجل الجوهر والروح.
* حسن الربيح: شاعر وكاتب سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.