إطلالة

الراديو.. وسيلة عمياء تُرينا الوجود

الراديو.. وسيلة عمياء تُرينا الوجود

يصادف الثالث عشر من فبراير من كل عام يوم الاحتفال العالمي بالراديو. وقد اختارت المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) عنوانًا لافتًا يعكس أهمية الإذاعة وضرورة استمرار وجودها كوسيلة تواصل بين البشر، وهو "إذاعة متجددة لعالم متجدد"، وذلك للتأكيد على أن الإذاعة التي لم تنهزم أمام سطوة التلفاز، لن تندحر في مواجهة عاصفة الإنترنت وملحقاتها من وسائل الميديا؛ حيث تتميز الإذاعة بمرونة حضور لا تتوفر لكل وسائل الاتصال، فهي وسيلة رخيصة مقارنة ببقية الوسائل، ولا تحتاج إلا إلى الصوت البشري. كما أنها متاحة للجميع في كل زمان وكل مكان وتحت أي ظرف من الظروف. 

وفضلًا عن ذلك، تتمتع رسالتها الإخبارية بمصداقية مقابل ما يُتداول في وسائل التواصل الاجتماعي، ناهيك عن الإحساس بطزاجة الطرح الذي تقدمه وفَوْرِيَّتِه.

الإذاعة، ومنذ ظهورها الأول، اعتمدت على حميمية التواصل مع المستمعين، وكأنها تقدّم رسالة شخصية خاصة لكل مستمع، أو هذا هو الشعور الذي يتولّد لكل محب للإذاعة، فهي وسيلة تواصل تؤسس لعلاقة حب وصداقة بينها وبين الجمهور، حيث تستمتع ربّات البيوت بالاستماع إلى تمثيلياتهن الصوتية المحببة وهن يؤدين فروض المنزل. كما يواظب الرجال على متابعة الإذاعات الإخبارية فيما يشبه الولاء لهذه المحطة أو تلك. وقد يكون هذا الفصيل من المستمعين من الأميين، ولذلك يجدون في الإذاعة مادتهم التثقيفية والترفيهية.

حتى بالنسبة للقادرين على القراءة والكتابة، لا يحتاج سماع الراديو إلى أي جهد كما هو الحال في قراءة الكتب أو الصحف أو مشاهدة التلفزيون أو تصفح تطبيقات الإنترنت. 

الراديو لا يقدّم وجبة إعلامية كاملة الاستواء، بالنظر إلى انعدام الصورة، وبالتالي فهو يحرر خيال المستمع، ولذلك يسميه أساتذة الإعلام "الوسيلة العمياء". أما الإحساس المتأتي من كون كل مادته تُبث بشكل مباشر فتبقيه إلى حد ما ضمن الوسائل التي يُصطلح عليها بالميديا الساخنة، حيث يشعر المستمع بأنه في قلب اللحظة، وأن الرسالة التي تصله تخاطب عقله بالقدر الذي تخاطب وجدانه، بما في ذلك البث المباشر الذي يكفل للإذاعة بُعدًا تفاعليًا، وهو الأمر الذي تنبهت له الإذاعات، فوسعت هامش البث الحي لتعزيز التواصل مع المستمعين، خصوصًا إذاعات الإف إم التي ترافق المستمعين في كل خطوة من خطواتهم طوال اليوم، سواء عبر أغانيهم المفضلة، وموافاتهم بالجديد من المنتجات الفنية، أو إشراكهم في الدردشة والتصويت على موضوعات وقضايا يومية.

الإذاعة تتغير بذات الإيقاع الذي يتغير به العالم، سواء على المستوى التقني أو الموضوعي، ولذلك لم تعد الإذاعة تعتمد على الاستقبال عبر جهاز الراديو التقليدي الذي تجاوزه الزمن إلى الترانزستور ثم إلى البث الرقمي، كما أثبتت قدرتها على التكيف مع التحولات المجتمعية لتلبية الحاجات المعرفية والوجدانية للمستمعين. 

وإذا كانت مصانع السيارات قد تخلت عن تضمين تابلوه السيارات الحديثة بمساحة لمشغل إسطوانات السي دي كما تخلت من قبل عن مشغل الكاسيتات، إلا أنها لم تتجرأ على إلغاء الراديو، لأنها تعي تمامًا أنها قد تقطع الحبل السري الذي يربط السائق بالعالم.

 

* محمد العباس: كاتب وناقد سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge