الهُدهُد.. رمزٌ بدلالات ثقافية مختلفة

الهُدهُد.. رمزٌ بدلالات ثقافية مختلفة

منذ أن راح الإنسان يسبغ دلالات رمزية على عناصر الطبيعة وعالَم الحيوان والنبات، حظي الهدهد بما لم ينله أي طائر آخر من الاهتمام.
فبالتاج الذي يعلو رأسه وقامته الممشوقة وألوان ريشه، يأسر الهدهد الأنظار. وإذا أضفنا إلى ذلك بعض طباعه وسلوكياته لأمكننا، ربما، تفسير المكانة المتفردة التي يحتلها في مملكة الطير.

إنه طائر بري، يعيش منفردًا، ويهاجر لمسافات طويلة، وهذا ما يضفي عليه بعض الغموض. ولكنه أيضًا أقرب الطيور البرية إلى الإنسان، حيث يدنو منه ولكن بحذر مُبرَّر، ويألف المزارعون مشاهدته في حقولهم. ولعل ثنائية الأُلفة والغموض هذه، تفسِّر ما حمَّله الإنسان للهدهد من رموز ودلالات ثقافية في كل المجتمعات التي عرفته، وبشكل خاص في الثقافات الشرقية.

الهدهد في عيون الشعوب

وعند البحث عن مقام الهدهد في ثقافات العالم، يمكن للمرء أن يجد كثيرًا عنه، بدءًا من الفن الصيني القديم وانتهاءً بالأدب الأمريكي المعاصر، علمًا أن لا هداهد في القارة الأمريكية. وفي بداياتها، أو في أبسط صورها، كانت علاقة الإنسان بالهدهد تتكوَّن في معظمها من أساطير وروايات شعبية. فالمصريون القدماء كانوا يقتنون الهداهد في بيوتهم، ويربطون ما بينها وبين عين حورس، التي كانوا يعتقدون أنها قادرة على رؤية العوالم غير المرئية.

واعتقد الإغريق أن الهدهد قادر على فتح الأماكن المغلقة، كما تطلَّع إليه بعض أدبائهم على أنه عقاب، كما هو الحال عند الكاتب أريسطوفانِس، في مسرحيته الساخرة الطيور (414 ق.م)، حيث يُعاقَب تيريوس ملك تراقيا، بمسخه إلى هدهد بسبب اعتدائه على شقيقة زوجته. ولربما وجد هذا الأديب في الهدهد خير مسخ يمكن أن ينقلب إليه ملك، بسبب التاج الذي يعلو رأس الاثنين.

أما العرب فقد نسبوا تاج الهدهد إلى أسطورة تتحدث عن فضيلة برِّه بوالديه. إذ يروون أن هدهدًا جاب الأرض بعد وفاة والديه، وهو يحملهما بحثًا عن قبر لهما. ولمَّا لم تطاوعه نفسه أن يدفنهما في أي مكان، قرَّر دفنهما في وهدة خلف رأسه. واعتقد العرب أن تاج الهدهد مكافأة ربانية على صنيع بِرِّه، وتعويضًا عن وهدة القبر، ذاهبين إلى القول بأن رائحته النتنة تعود إلى حمله للجيفتين.

وفي الشرق عمومًا كان للهدهد دلالات أكثر إيجابية من نظائرها في الغرب. فهو في أفغانستان إشارة إلى السعادة والثراء وحُسن الصيت، وقيل في الفولكلور الأفغاني إن سكان المنازل، التي يختارها الهدهد ليحط عليها ويبني عشه، سيلحق بهم الحظ السعيد ويذيع صيتهم بالحظ والملكية. كما كانت بعض أُسر الأوزبك تزيِّن بيوتها برؤوس الهداهد كنوع من الطلاسم الجالبة للأمان والاستقرار.

وفي الفولكلور الفارسي القديم أسطورة تحاول تفسير وجود التاج على رأس الهدهد، وتقول إن الهدهد في حقيقة الأمر عروس وجدها والد زوجها تُسرِّح شعرها أمام المرآة ذات صباح فخجلت كثيرًا، وهربت بمشط التسريحة الذي ظل لصيقًا بقمة رأسها إلى الأبد. والطريف في الموضوع هو أن اسم الهدهد بالفارسية، (شانه به سر)، يعني الرأس المكلل. وعلى المنوال نفسه، يمكننا أن نجد مثل هذه النظرة إلى الهدهد أو تلك في كل ثقافات العالم.

مبعوث النبي سليمان.. شعار الخبر اليقين

ولأنَّ الهدهد أتى النبي سليمان عليه السلام بالنبأ اليقين، أصبحت صورة هذا الطائر رمزًا لصحة أي خبر، فكان من الطبيعي أن تصبح صورته شعارًا لبعض وسائل الإعلام، خاصة في المجتمعات التي تعرف الهدهد عن كثب في حياتها الزراعية، كما في تراثها الثقافي، مثل اليمن على سبيل المثال.

فعندما صدرت جريدة سبأ في مطلع الستينيات بمدينة تعز اليمنية على يد الصحفي، محمد عبده صالح الشرجبي، اتخذت من الهدهد شعارًا بصريًا لها. وكان ذلك هو حال وكالة الأنباء اليمنية، سبأ، التي اتخذت من هيئة الهدهد شعارًا وعلامة تجارية لها، ومن الآية الكريمة: "وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ" (النمل 22)، شعارًا مكتوبًا للدلالة على الاتساق الموضوعي والوظيفي لوكالة أنباء إخبارية.
وحين أطلق الشاعر السوري المقيم في لندن، محيي الدين اللاذقاني، في عام 2009م، صحيفة الهدهد الإلكترونية الدولية، كأول صحيفة تصدر بخمس لغات عالمية، هي العربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية والفارسية، اتخذت المحطة شعارًا لها يقول: نحلِّق بك بعيدًا لنأتيك بالدهشة والنبأ اليقين. كما غزا اسم الهدهد عددًا من مواقع التواصل الإلكتروني والاجتماعي، ومنصات التراسل الفوري، ودخل فضاء التطبيقات الرقمية للمراسلات.

نُشر في مجلة القافلة عدد سبتمبر/أكتوبر لعام 2020م. فريق القافلة ومحمد محمد إبراهيم
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge