إطلالة

المعلَّقات في (إثراء)

المعلَّقات في (إثراء)

في إنجاز بديع من مُنجزات التلاقح الحضاري بين الشعوب، أصدر مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) كتابَهُ (المعلَّقات لجيل الألفية) باللغتين: العربية والإنجليزية. هذا المشروع الإبداعي الكبير يتجاوز في فكرته مسألة ترجمة المعلقات إلى لغة أخرى لأنَّ ترجمتها ليست بالأمر الجديد، فقد ترجمها المستشرقون منذ عشرات السنين، خصوصًا إلى اللغة الإنجليزية؛ هذا المشروع هو محاولةٌ جادَّة لتقديم المعلَّقات للأجيال الجديدة على الصعيد العالمي، و«استكشاف رسائلها الإنسانية، والاحتفاء بفرادتها الفنية، والإنصات إلى ما تقوله عن المبدعين الذين أنتجوها، وعن الناس الذين عاصروا لحظات ابتكارها»، كما يقول كاتب المقدِّمة.

عندما نعود إلى كلاسيكيَّات الشعر العربي، نعود إلى الشعر الجاهلي كما صنَّفه المؤرِّخون. وهذا الشعر يمثِّل نهرًا جميلًا تفجَّر في تلك الصحراء القاحلة واستطاع أن يمتصَّ لهيبَ مشاعرها وأن يُرقِّق قساوةَ طبيعتها. وعلى الرغم من كثرة الشعر الجاهلي المتناثر في أمَّهات الكتب، إلا أنَّ أهل الأدب أجمعوا على أنَّ أجمل ما قيل في ذلك العصر هو تلك القصائد الطوال المسمَّاة بالمعلَّقات العشر.

في ذلك العصر، لم يكن أبو الأسود الدؤلي قد ابتكر (النحو) كي يعرف الشعراء ما هو الإعراب، ولم يكن الخليل بن أحمد الفراهيدي قد اكتشف (العروض) كي يعرف الشعراء ما هي البحور الشعرية، ولم يكن عبدالله بن المعتز قد أنشأَ (البديع) كي يعرف الشعراء ما هي المجازات والاستعارات والتوريات؛ كان الشعراءُ يكتبون شعرًا تمليه عليهم سليقتُهم مدعومةً بموهبة بلاغيَّة، ومدفوعةً بقضايا إنسانيَّة، لذلك لم يتركوا مجالًا للافتعال كي يحلَّ مكان الانفعال في قصائدهم. كان الشعر في ذلك الوقت يعيش صفاءه الأوَّل في موطنه الحقيقي وهو الصحراء. ويكفي شعراءَ المعلَّقات إبداعًا أن تكون قلوبُهم هي ضابطة إيقاعاتهم ومُلَحِّنَة سيمفونياتهم التي عزفوها على مسامع الأجيال اللاحقة عبر العصور.

في ذلك الوقت أيضًا، كانت الروح العربيَّة تعيش لحظةَ انبهارها بأوَّل قطرةِ ينبوع شعريّ يتفجَّر من القرائح، فلم تكن تميِّز بين الماء العذب وبين الماء الأجاج.. كانت تحاول فقط أن تروي ظمأها الروحيّ. وكانت دقَّاتُ طبول الوزن ودندناتُ خلاخل القوافي كافيةً لإنزال ذلك المطر الموسيقيّ الرقيق الذي يجعل الروح تتحرَّر من جفافها. إذن، لا بُدَّ أن نتعامل مع هذه المعلَّقات معاملتَنا مع الأشياء لحظةَ اكتشافها كي نعيش الدهشة، إذ لم تكن هذه القصائد تحمل مشاعرَ مفتعلةً تبحث عن هدف فنِّيّ، إنَّما كانت خالصةً من أجل إنسانيَّتها، فلا مسافة تفصل بينها وبين قائلها. لذلك، يتجلَّى الإحساس صادقًا حتَّى على حساب الصورة الشعرية.

شكرًا لمركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) على إثراء القُرَّاء بهذه المنجز، الذي فتح آفاقًا جديدة لإطلالة عالميَّة على أهمّ ما أنتجته العبقرية الشعرية لدى العرب الأوائل، في محاولة رائدة للمثاقفة بين الأجيال في كلِّ اللغات والحضارات.

جاسم الصحيح، شاعر سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.


Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge