إضاءة

جيمز إليس وعلبة التونة!

جيمز إليس وعلبة التونة!

الكاتب البريطاني المعاصر جيمز إليس كتب في مقالة بعنوان (أكل التونة من العلبة) عن ملاحظته لحادثة روتينية بسيطة ولّدت عنده نوعًا من الإدراك العميق؛ ففي آخر ساعات العمل كان وبكل عفوية يأكل التونة من العلبة مباشرة قبل أن يتجه مغادرًا إلى صالة الألعاب الرياضية. وعندها كان زملاؤه في العمل يمرون به فيبتسمون أو يتجهمون أو يسخرون، لكنه على حد تعبيره لم يكن منزعجًا لهذا الأمر بقدر انزعاجهم.

تزامنت هذه الملاحظة مع أيام إليس الأخيرة في إنهاء رسالة الماجستير في الفلسفة بحيث كان يشعر بنوع من الفراغ، لذلك أطال التفكير في سبب هذه الظاهرة البسيطة. وكانت نتيجة هذا التفكير الوصول إلى حقيقة مثيرة: «هل يمكنك أن تتخيل كيف يمكنك أن تكون مقفلًا عليك في نوع من أنواع الاستهلاكية النمطية، بحيث أن مجرد رؤيتك لشخص آخر يأكل الطعام تكون سببًا للاضطراب أو الانزعاج، ولربما حتى الغضب!».

ويوضح إليس أن تلك اللحظة كانت هي التي وضعت النقاط على الحروف، ففجأة استشعر حريته في فعل ما يريد، وانفك قيد من القيود الاجتماعية الأخيرة بالنسبة له. وبالنتيجة انتهى به التفكير إلى تغيرات جذرية في حياته، فبدأ بترك استخدام الهواتف الذكية والفيسبوك والنتفلكس والتلفاز.

يقول إليس: «سأكون صريحًا، فعندما تترك كل هذه المشتتات ستكون قد قطعت نصف الطريق إلى الرجوع لحالتك الطبيعية. لا أعني تلك الحالة النفسية الأصيلة، ولكنها أقرب ما يمكن إلى تلك الحالة غير المتلاعب بها. فجأة ستجد أن لديك الكثير من الوقت، وقيمة ذاتية أكبر، وقلقًا أقل، وحتى وعيًا وإدراكًا أفضل».

إليس لم يقنع بهذا القدر من التغيير، فسرعان ما انتقل إلى حياة تقليلية على المستوى المادي لم تقتصر على التخلص من الأمتعة والأشياء غير الضرورية، هذا إذا استثنينا مكتبته التي لم يتمكن من تركها، بل شملت حتى مسيرته الأكاديمية ووظيفته.

ولكي ندرك أهمية حادثة التونة هنا، يجب أن نلحظ أن إليس إلى ما قبل تلك اللحظة كان قد نشأ كما ينشأ كل شخص في العالم الحديث على وسائل الإعلام الجماهيرية، والتلفزيون، والإنترنت، والحميات المستحدثة، وألعاب الفيديو، والتعليم العام، والإفراط في التدخين أو الشرب، وغيرها من مظاهر العولمة.

في النهاية هذه الأمور كلها قد تصب في اتجاه قولبة الأفراد، وصنع نسخ كربونية لما يجب أن يكون عليه الشخص في زمن الحداثة، فالتعليم موحد، والملبس موحد، وطريقة الأكل موحدة؛ والنتيجة طريقة حياة نمطية موحدة. هذه النمطية تولّد ضغطًا اجتماعيًا كبيرًا على الإنسان فهو بطبيعته مخلوق اجتماعي يسعى للقبول، ولا يحب أن يبدو شاذًا عن «المجموعة».

مبدأ الملاحظة كما طبقه إليس في حادثة التونة، ليس حكرًا على العلماء والمفكرين، فنحن كبشر نمارس هذه العادة شعوريًا أو لا شعوريًا.

وقد تؤدي ملاحظة حادثة روتينية بسيطة إلى نوع من الإدراك يترك أثره على نمط حياتنا، أو ربما، كما في حالة إليس، يغير حياتنا كليًا.

 

ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge