هذه الأيام هي فاتحة موسم الربيع، الفصل الذي يُعرف بالاعتدال، وإن كنا استقبلناه بأيام متقلبة في أحوالها وحرارتها، فصل نمو الأزهار والاستمرار في حصاد الثمار كما علمتنا المدارس، وكما ستلوح لنا الشوارع وهي تزدان بمختلف الألوان من ألوان الزهور والورود.
ولأني لا أملك خبرة الراحل جبر الدوسري في شؤون الفصول، فلن أحدثكم عن سعد السعود وجريان الماء في كل عود، ولا عن نزول الشمس في برج الحوت، ولا السرايات، ولا الرياح الهوجاء، بل سـأصف لكم ما تتسع له الأرض والسماء في مثل هذه الأيام، وما تحمله الريح معها من تباشير وأخبار، وأعني تلك الطيور المهاجرة التي تقطع المسافات في طريق عودتها شمالًا بعد أن أمضت يومياتها في جنوب الكرة الأرضية خلال فصلي الخريف والشتاء.
فبمثل ما تتلون الأرض بألوان الشجر والثمر، ستتلون السماء بأشكال وأحجام مختلفة من هذه الطيور التي تختزل عبر رحلتها سيرة البحث عن طعام وموئل وهي تغادر بلدانها الباردة جدًا باتجاه أخرى أكثر دفئًا، ضمن خطوط ملاحية مرسومة بدقة، مازال العلماء يتأملون ويتأولون أسرارها، التي تهبها القدرة على الوصول إلى الأماكن المقصودة في كل عام.
لن تعرف بهجة النظر لهذه الكائنات الجميلة ما لم تجلس أمام الطبيعة لتقرأ في سطورها الكثيرة، وتتهجى صنوف الطيور البحرية والبرية التي تفد إلى هذا البلد طيلة موسم الربيع. ستشعر أن حاسة جديدة نمت لديك في لحظة المتابعة، لأن هذه الطيور كانت في الغالب حولك وبالقرب منك، دون أن تهبها نظرك ولا سمعك.
الذين عرفوا الأرياف في صباهم، ستجد لديهم نصيبًا من ذاكرة هذه الطيور، فيهم من راقبها بحب، وفيهم من تسلّى باصطيادها دون وعي بأهميتها في خلق توزان بيئي للمكان؛ الأمر الذي بدأ أخيرًا يأخذ حقه من الاهتمام، ومكانه في حزمة القوانين المحلية التي دفعت باتجاه حظر الصيد لبعض الأنواع خلال مواسم الهجرة. سيحدّثك الآباء عن أعداد كبيرة لم نعد نراها اليوم، بسبب انحسار الرقعة الزراعية الواسعة، التي كانت تمثّل الموئل الأهم لهذه الطيور العابرة، وعن دهشتهم وافتتانهم بها، حتى دَرَجَتْ أسماؤها وأوصافها ضمن الأمثال والأقوال الشعبية.
فقط تلفّتْ من حولك، وأرهف السمع هذه الأيام، لتكتشف كم من طائر جميل ترك حكاياته معلقة على غصن في طرف الطريق، لأنه وجد الطعام والأمن فيها فاستراح كي يستجمع طاقته قبل أن تأخذه الريح باتجاه بلاده البعيدة. تأملْ في جسده الضعيف وريشه الخفيف وعزمه الكبير الذي يهبه الشجاعة للترحال طيلة حياته، لأن الهجرة وحدها هي حرزه في مواجهة تقلبات المناخ، وتحولات البيئة.
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.
