الخلود عبر التاريخ وأبدية الصراع بين البقاء والفناء

الخلود عبر التاريخ وأبدية الصراع بين البقاء والفناء

لفكرة الخلود عبر التاريخ، ذلك البحر المتلاطم من الزمن والسِفر الذي يعلم الله وحده متى تُطوى آخر صفحاته، جذورٌ ضاربة في أعماق النفس الإنسانية، ولها مظاهر وتجليات تستدعي التأمل، وهي مدعاة للبكاء أحيانًا وللضحك في أحيان أخرى.

ولعل تفكيك جُزئَي العبارة في حد ذاته يستحق تأملًا عميقًا، فالتاريخ هو ابن الزمن وصنو التغيُّر والتحول، وله في كل آن فَناءٌ بصورة ما وميلادٌ آخر جديد، وهو مفهوم نسبي متحرك غير ثابت. أما الخلود فهو على النقيض من ذلك، فمعناه الأصيل يكتنف الدوام والبقاء، اللذين لا يعرفان النهاية ولا النسبية؛ فعلى أي خاطر وردت فكرة الجمع بين هذين النقيضين، ومزجهما في قالب واحد لإكساب ما يفنى صورة ما يبقى؟!

نسبية الخلود عبر التاريخ، يمكن تصويرها بصورة ربما تكون قريبة إلى أذهاننا التي تعيش اليوم أجواء العصر الرقمي؛ فكأن الأمر أشبه شيء بخريطة رقمية تُظهر الملامح العامة لمكان ما، فمتى قدحت بإصبعيك مقتربًا لاحت لك تفاصيل أكثر فأكثر، إلى أن تصل إلى الحد الذي لا يمكنك بعده استيضاح ما وراءه. وهكذا التاريخ، كأنه خريطة زمنية تلوح لك منها الأسماء الكبيرة الخالدة، وحين تسبر أغوار بلد ما من بلدان الدهر، كبلد الشعر مثلًا، تظهر لك أسماء أصغر فأصغر، حتى تصل إلى الحد الذي يكون ما بعده محرومًا من الخلود مستسلمًا للفناء.

فتنة الخلود

ولعل سحر فكرة الخلود في التاريخ وفتنتها، تجعلنا للوهلة الأولى ننظر إليها بعين الرضا والإعجاب، فنظنها حكرًا على ذوي المجد والعظمة والعبقرية والإبداع، فالسلاطين والأبطال والعلماء والأدباء هم وحدهم من يكتبون التاريخ فيخلدون فيه. لكن بعض التأمل يكشف زيف الفكرة أو نقصها، فالتاريخ يُكتب بأيدٍ أمينة وبأخرى آثمة، وللتاريخ فيما يخلِّده شؤون وأحوال!

وأبواب الخلود النسبي عبر التاريخ شتى، فيومًا ما كانت كثرة الولد أحد تلك الأبواب، وهكذا نحن نعرف إلى اليوم ربيعة ومضر، لكن ذلك الباب يبدو عصيًا على الفتح في زمننا هذا.

وهناك من يخلد في التاريخ أمدًا ما لصدفة محضة أو لموقف عابر، فـ «سنمار» لم تُخلِّده براعته في العمارة، بقدر ما خلَّده غدر الحاكم به! وهناك أيضًا من يبقى لاتصافه بصفة حميدة أو ذميمة يذهب بها مثلًا، كحاتم وأشعب. وقد يكتب التاريخ صنيعة المرء وينساه، بل ربما خلَّدها منسوبة إلى غيره، فكثيرٌ منا يعرف شخصية «جحا، لكن من منا يعرف مبتدعها؟ ومتى سقط اسم مؤلف (ألف ليلة وليلة) من حسابات الخلود؟

بين أبواب التاريخ وهوامشه

وحسبك التأمل في الثنائيات الخالدة لتتبين حقيقة الأمر، فهابيل خالدٌ ومعه قابيل؛ ولست أدري أيًا منهما جرَّ الآخر إلى باب الخلود! وإلى جانب العظماء خلَّد التاريخ بعض المجانين والمهرجين والمجرمين، وإذا تذكَّرنا أن للخلود أبوابًا واسعة فيجدر بنا ألَّا ننسى أن له هوامش ومدافن أيضًا.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هناك من يقتحم أبواب التاريخ عنوة، وكأنه رسم خطة الخلود وباشر تنفيذها حتى تحققت، كما هو حال بعض أصحاب الملاحم الذين يَشرُونَ الحياة بالخلود.

لكن من الصعب معرفة حتمية النجاح في ذلك، ومن الصعب تفسير أسبابه أيضًا؛ فالخلود يضنُّ بأسراره عن أن يكشفها عن آخرها. ومن يدري مثلًا إن كان عالم الفيزياء ستيفن هوكينغ سيُعمَّر ما عُمِّره نيوتن أم سيغدو سريعًا طيَّ النسيان؟ وإلى أي عمر سيبقى بيل غيتس مثالًا للثروة وميسي رمزًا للإبداع الكروي؟ وهل يجيء حينٌ يُزحزح فيه شكسبير والمتنبي عن عرشيهما؟

والمشتغلون في الجانب الفكري والثقافي كثيرًا ما تُغريهم فكرة الدخول إلى التاريخ «من أوسع أبوابه»، وهو بنظرهم باب الكتب والتأليف. ولا شك أن معهم بعض الحق في ذلك، فالكتاب له شأن مع الخلود، والكلمة خُلقت لتبقى وبها يُكتب التاريخ، بل هي تاريخ في حدِّ ذاتها. لكن الضمان بعيد المنال هنا أيضًا. فإذا افترضنا أن العمل المكتوب اجتاز اختبار الزمن واستحق أن يُخط بماء الذهب، فمن سيضمن أهواء الناس المتقلِّبة في مهب رياح الوقت؟ بل حتى خلود العمل بمعناه الضيق، على رفوف المكتبات، لا حتمية له، فكم كتاب آل مصيره إلى الغرق أو الحرق مع دورات الخراب والصراعات الملازمة للبشرية؟ وإلامَ تصير الأمور مع طوفان العصر الرقمي الذي يخلق أدوات جديدة وربما موهومة للخلود، كالصوت والصورة والمشهد؟

عن نفسي، تُغريني فكرة الخلود عبر التاريخ، وأجد غوايتها أحبَّ إلى قلبي من غواية الثروة أو الجاه أو الشهرة المؤقتة. لكني حين أُفيق من ثَمَلي، أُبصر سحرها باطلًا لأمرين؛ أولهما أني أجد همتي قاصرة وحيلتي ضعيفة عن الإبحار في التاريخ حتى دخوله من الباب الذي أحب، حيث العظماء الذين أنظر إليهم بعين الإجلال والإكبار، وهذا أمرٌ لا أجد ضيرًا في الاعتراف به. أما الآخر، فهو أن فكرة الخلود عبر التاريخ، تلوِّح لي بفكرة أخرى هي الموت، وتلك فكرة متى ما أمعنت التفكُّر فيها، ناظرًا بعيني اليقين أو الريب، وجدتني أطلق الفكرة الأولى لتطير مع الريح، وأتمسك بطرف أهداب خلود آخر، لست أدري إن كان جناحاي يستطيعان حملي إليه!

Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge