مراجعة كتاب

كيف ننجو بأنفسنا من دوامة الصور اللامتناهية؟

كيف ننجو بأنفسنا من دوامة الصور اللامتناهية؟

في عصر تهيمن فيه الصورة وتسويق الذات، بل وتسليعها واستغلالها من حيث نشعر أو لا نشعر، ومن حيث نعرف أو لا نعرف، ثمة حاجة للتوقف والتأمل قليلًا قبل أن يجرفنا مد الصور اللامتناهية بسيله، ويكون الخروج من دوامة الصور أمرًا مستصعبًا أو ربما خارج دائرة الإمكان. 

ثمة رغبة ملحة أصبحت تتنامى وتكبر، سواء أكنا واعين بهذا الأمر أم لم نكن واعين به، تدفعنا للرغبة في الظهور وأن يكون لنا حضور دائم، صورة وصوتًا أو كليهما معًا، عبر منافذ ومنصات ما فتئت تتكاثر لتلبي مطالب هذه الرغبة التي لا تفتر ولا تضمحل ولا تتراجع. 
لقد بتنا مهووسين بفكرة الظهور والشهرة وصرنا نتسابق على اجتذاب العدد الأكبر من المتابعين وحصد الكم الأكبر من "اللايكات"، بل إن بعض الناس أصبحوا لا يتورعون عن فعل أغرب الأشياء وربما أقبح الأفعال ليحظوا بفرصة أن يكونوا "تحت الأضواء".

هذا الهوس والتسابق لأن يكون لكل منا موطئ قدم في هذه العوالم الافتراضية المتزاحمة بما لا يحصى من الصور والأصوات بات يشكل عبئًا ثقيلًا علينا جميعًا، وهو ذو أبعاد وانعكاسات نفسية واجتماعية، بل ووجودية لا ينبغي الاستهانة بها أو التقليل من شأنها أو إشاحة الطرف عنها.

  ولغرض تحليل هذه الظاهرة ودراستها ومساعدة من يشكون منها والراغبين في الخروج من دائرة تأثيرها، أو على أقل تقدير، التخفيف من حدتها، لجأ بعض المتخصصين والمهتمين بهذه الظاهرة ودراسة أبعادها وآثارها إلى كتابة دراسات وإنتاج أفلام وثائقية وتأليف كتب تخضع هذه الظاهرة لمجسات التحليل ومباضع النقد. ومن بين هؤلاء الباحثة والكاتبة الأمريكية أكيكو بوش في كتابها (كيف نختفي: ملاحظات عن التخفي في زمن الشفافية How to Disappear: Notes on Invisibility in a Time of Transparency) الصادر عن دار بنغوين عام 2019م.

هذا الكتاب، وعلى عكس ما قد يوحي به عنوانه الرئيس، لا يقدّم دليلًا إرشاديًا عمليًا ومبسطًا ومباشرًا يساعد القراء في الخروج من دوامة الصور اللامتناهية، بل إنه يقدم عبر مقالاته الإحدى عشرة، بالإضافة إلى مقدمته المطولة، تأملات تغوص في أعماق كل ما يمت بصلة للخفاء والشفافية (والشفافية هنا بمعنى أن كل شيء بات مرئيًا) في عالمنا المحكم النسيج بالشبكات والمشبع بما لا حصر ولا انتهاء له من الصور. فنحن اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، نجد أنفسنا مدفوعين، بل ومهيئين للكشف عن خبايا ذواتنا ولإطلاع الآخرين عليها، ولتسويقها أيضًا في بازار مفتوح يمتد من أقصى العالم إلى أقصاه.

والضغوط التي نتعرض لها لكي نقدم ونبرز أنفسنا في المجال العام لا تأتي من أقراننا وأصدقائنا فحسب، بل من شركات التقنية الكبرى المهيمنة التي تريد أن تجني الأرباح من أنماط سلوكنا ورغباتنا وتفضيلاتنا في كل مجالات وميادين الحياة.

من خلال كتابتها عن حياتها الشخصية، وأفراد أسرتها، وعن زيارتها لبعض أبعد الأماكن في العالم وأكثرها غرابة وخصوصية، تتطرق الكاتبة المحبة للطبيعة واللصيقة بها عما يحتويه بقاء المرء أو الشيء لامرئيًا من متعة وسكينة.

الرسالة التي تحرص بوش على إبرازها وإيصالها لنا هي أن البقاء بعيدًا، حتى وإن كان ذلك بشكل غير كلي، عن أضواء السوشيال ميديا، هو نقطة قوتنا ودرعنا الذي يحمينا في وجه الهجوم الضاري الذي تشنه علينا كل يوم لتسلب منا الاستمتاع بمتع الحياة البسيطة مع من نحب من أفراد أسرتنا أو حتى وحدنا، كأن يشرد ذهننا ونحن نستحم أو نستمع لموسيقى نحبها أو حين نمشي أو نهرول معطين لأجسادنا بعض حقها علينا، أو حين نحدق ونتأمل في جمال الطبيعة من حولنا، أو حين نمشي على أرصفة مدن مزدحمة لا يعرفنا فيها أحد.

في الأساطير اليونانية نعثر على أسطورة نرسيس، الشاب الجميل الذي يقع في غرام نفسه حين تبصر عيناه صورته منعكسة على ماء النبع، ويطيل التحديق فيها ويقترب منها كثيرًا حتى يقع في النبع ويغرق ويلقى حتفه في نهاية المطاف. ما تسعى بوش في كتابها هو أن تنقذنا من المصير الذي انتهى إليه نرسيس الذي قاده ولعه بصورته وهوسه بها إلى الهلاك. إنها تنبهنا إلى أن غيابنا مهم بقدر أهمية حضورنا، بل إنه ربما يكون أكثر أهمية لنحظى بحياة متوازنة يسودها السلام النفسي وتظللها السكينة.

Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge