إطلالة

تأرجحٌ بين الخيال والواقع

تأرجحٌ بين الخيال والواقع

للصفحات الأولى في الكتب أهمية المداخل للبيوت؛ فالإهداء والمقدمة، أيًا كان اسمها: «خطبة الكتاب» أو «التوطئة» أو «التمهيد»، تحاول أن تُهيِّئ القارئ وتؤثر على حكمه، في اتجاه معين من خلال تلك العتبات.

لكن هناك عتبة محيرة تخص الرواية وحدها، نراها كثيرًا في صورة هذا التنويه: «كل شخصيات وأحداث هذه الرواية من وحي الخيال، وأي تشابه مع الواقع هو من قبيل الصدفة». وللأسف تعلمت السينما هذه الحيلة وأثقلت بها كثيرًا من أكتاف الأفلام.

ولا أعرف حالة واحدة قام فيها هذا التنويه بحماية صاحبه من المخاطر التي يخشاها، سواءً كانت غضب شخص قوي أو سلطة مجتمع أو سلطة سياسية. لذا يمكننا أن نتوقع أن معظم من يكتبون هذه الكلمات لا يقصدون معناها الحقيقي بل عكسه بالضبط؛ فهم يريدون إيهام المتلقي بأن الوقائع حقيقية!

يمكننا معاملة هذا التنويه بوصفه وعدًا بوجبة من النميمة والأخبار التي يطلبها قارئ الأدب، لكن القارئ يطلب في الوقت نفسه أن تكون هذه الحقيقة مثل الكذب، يطلب خفة الخيال، من أجل الانعتاق من ثقل واقعه الخاص. والكاتب من جهته يستنكف أن يكتب نشرة أخبار؛ لأن مجده يأتي من قدرته على صناعة الخيال، ويريد إتقان ذلك حتى يجعل خياله مثل الحقيقة.

وبسبب الرغبة في الشيء ونقيضه لدى القارئ والكاتب، لا مناص من التواطؤ بين الطرفين الذي يعدُّه الناقد الإنجليزي تيري إيغلتون شرطًا لوجود الأدب. فالقارئ يختار نصًا خياليًا لكنه مستعد لاعتباره حقيقيًا، وعلى الكاتب أن يضعه في حالة "البين بين" هذه من خلال المماحكات على عتبات الرواية.

وبالإضافة إلى حيلة التبرؤ من واقعية الأحداث، هناك حيلة ادعاء العثور على مخطوط، تيمنًا بسرفانتيس في رواية (دون كيخوته)، التي ادعى أن أصلها مخطوط كتبه العربي سيدي حامد بن الجيلي. ولم تزل هذه الحيلة مُغرية لمنح الرواية قوة الوثيقة.

وبعض اللاعبين المهرة يتركون العتبات، وينثرون مماحكاتهم على مدار الحكي. فالكولومبي ماركيز كتب روايته القصيرة (قصة موت معلن) بتقنيات تحقيق صحفي، قدَّم فيه كل الأقوال عن حياة وموت سنتياغو نصار!

يقوم الراوي في تلك النوفيلا العذبة بدور المحقق ناسبًا المقولات إلى أصحابها، ويعقد المقابلات بين أقوال الشهود المتضاربة، لكنه لم يكتف بذلك بل يجعلنا متأكدين أنه هو نفسه الراوي؛ فيحشر في الرواية زوجته مارثيدس بارتشا، وكيف التقى بها. كما أنه يضع الملاحظات الساخرة على هذه الواقعة الغريبة أو تلك لينفي عنها صفتها الخيالية: «لم أرغب في الاقتناع بأن تلك المرأة هي المرأة نفسها التي كنت أتصورها، لأنني قاومت الموافقة على فكرة أنه يمكن للحياة أن تنتهي إلى أن تكون مشابهة جدًا للأدب الرديء».

وما نفهمه من عبارة كهذه هو إدانة ماركيز للإفراط في الخيال، فهذه سمة من سمات الأدب الرديء، ولأنه يخشى أن يتهمه القارئ بهذه التهمة الشنيعة؛ يصرُّ على أنه يكتب الواقع، ولا ذنب له إن بدا ذلك خيالًا مفرطًا.

كذلك لم يُفرِّط ماركيز في حيلة المخطوط؛ حيث يشير إلى استناده في تحقيقه على ملف القضية في أرشيف قصر العدل، وفي جملة تالية يزرع الشك في قوة الوثيقة نفسها، مرجحًا أن القاضي، الذي لم يعثر على اسمه، كان مكتويًا بنار الأدب، لأنه «انساق أحيانًا في استغراق شاعري مناقض لوظيفته الصارمة، ولم يكن ليستوعب، بصورة خاصة، كيف يمكن للحياة أن تستفيد من مصادفات كثيرة محظورة على الأدب، لتتم دون أية عرقلة  عملية موت معلنة إلى ذلك الحد».

وهكذا، يطلب الأدب من الكاتب أن يكون بهلوانًا يتقدم على خيط مشدود، متأرجحًا بين الخيال والواقع، بحيث لا يفقد حياة روايته أو فضول قارئه.

 

عزت القمحاوي: كاتب وروائي مصري.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge