بقلم أبريل 22, 2021
لا يستطيع الإنسان صُنع ذاته دون ألم، فهو النحّات والمرمر في الوقت نفسه"؛ لعل هذه أبلغ مقولة عن ديناميكية الذات، التي جاءت نقلًا عن كارل فيرل، المنسوب للفلسفة الهلنستية، والمتأثر بأيدوليجية كبت المشاعر والغرائز بُغية الوصول إلى الحكمة (stoicism).
ولعلّ التفكُّر في مقولته تلك يكشف عبقرية الإنسان الوجودية، وبحثه الدؤوب عن إيجاد المعنى مستعينًا بكل الوسائل المعرفية والحسية، علّه يضمِّن في أعماله الكِتابية إرثًا يستعين به الحاضر والمستقبل في رسم خارطة وتاريخ للحضارات الإنسانية، تتكامل فيهما الأفكار عِوضًا عن التفاضل والنقد دون خبرة وتبحر.
أخذتني مقولة فيرل لأبحاث وأعمال الدكتور براين ليتل، وهو بروفيسور في علم الشخصية النفسي في جامعة كامبريدج، وعضو زمالة لدى هيئة الصحة النفسية. ففي أعماله الكتابية خارج النطاق الأكاديمي، يخلق ليتل جسر تواصل مع القارئين بمختلف خلفياتهم المعرفية، ليكون كتابه (أنا، ذاتي ونحن)بمثابة كنز لمعرفة الذات من ناحية علمية، بنظرة تتكامل مع فروع علم النفس الأخرى، كعلم النفس الاجتماعي.
الصفات الحرة
تلك النظرة أوجدت وخلقت في الكتاب تسلسلًا سلسًا بين العوامل المؤثرة في بناء الذات، من العوامل الجينية والبيئية، ليكون عمل ليتل في تعريف الذات والشخصية تحت إطار الصفات الحرة تقدمًا علميًا واقعيًا نحو شرح وتِبيان ديناميكية الإنسان الوجودية في ظل ما تتطلبه المواقف والظروف منه.
فالإنسان، في رحلة تطوره الذاتية، لا بُد له من كنز معرفي بذاته، والنظرة الجامدة للذات والشخصية على أنها حفنة من الصفات الثابتة، تُحيلنا إلىنطاق ضيق لا يُمدنا بوسائل مرضية أو مقنعة في استكشاف الحياة من خلال مختلف التجارب التي نمر بها.
نظرية الدكتور ليتل تشرح أن الصفات الحرة لدى كل منا هي جذوةٌ لقيم شخصية تعني لنا الكثير، فقد تجد من يميل إلى الخجل أو الهدوء مقدامًا في موقف ما، والتفسير العلمي المناسب هنا هو أن للشخص أسبابه في ذلك،بعيدًا عن إسقاطنا الخارجي المحدود بأن فلانًا ازدواجي الشخصية، أو أنه متكلفٌ ومتصنع.
ويسترسل الدكتور ليتل في سرده فيذكر حالتين محتملتين قد يختلف عندهما منظورنا الشخصي لذواتنا عن نظرة الآخرين نحونا. أولاهما هو ما عبَّر عنه بـ "البقعة العمياء"، وذلك حينما يغيب عنَّا إدراك مواطن القوة أوالضعف فينا، بينما يراها الآخرون بوضوح.
أما الأخرى فهي ما سماه بـ "البقعة الخاصة"، وهي تلك الزاوية التي تتيح لذواتنا معرفةً تفوق المعرفة والنظرة السطحية التي تبدو من المحيط الخارجي،فنكون عندها أقدر على إيجاد أسباب لقرارات اتخذناها، بينما يعجز الآخرون عن التوصل إلى هذه الأسباب.
إعادة خلق التوازن
كما يتطرَّق ليتل إلى مفهومالانسحاب الإستراتيجي لما وصفه بمنافذ تمنحنا الفرصة لإعادة خلق التوازن، وذلك حينما نتفاعل مع الحياة من منظار الصفات الحرة بمستوى قد يجعلنا بحاجة إلى الراحة واستعادة النشاط، لا سيما حينما تكون ذاتنا من الناحية الجينية تميل لنمط من التعامل الهادئ، الذي قد يختلف عن طبيعة أعمالنا المناطة بنا.
يأخذنا الدكتور ليتل في رحلة للتعرف على الذات تجعلنا ندرك مكامن القصور في مباشرة النفس والتعامل معها، فيجعلنا نراجع أوراقنا وأداءنا الشخصي في الحياة بتمعن، لنرى بوضوح أن جمود الذات هو موت سريري بطيء يُورثنا أعراضًا وعِللًا مختلفة، قد يكون علاجها في خلوة أنيقة مع أبحاث وأعمال مختص في عِلم النفس قد بذل لأجله عُمره.
ولربما كان بعض ما يتعب الذات هو بُعدنا عن الحاضر، وقبول محدوديتنا البشرية أمام معطياتٍ لم نواجهها من قبل، فليس هناك مخزون تاريخي يريح العقل في حل مشكلة راهنة، أو إيجاد منطقة للراحة.
ختامًا، قد توجد الصحة في مجموعة ورق وأبحاث تتطلب منا قليلًا من الفضول وإعمال النظر والمعرفة، والتريث قبل إطلاق الأحكام المستبقة، فلعل ما يورثهذه الأسقام هو عجزنا عن إيجاد المعنى والحل، وأعمال البروفيسور ليتل تتيح بوابةً لكل ذات تواقة للتطور.