السعادة التي تغمرنا بأنوارها!

السعادة التي تغمرنا بأنوارها!

"العلامة التي تدل على التقدّم الحقيقي في كل عمل إبداعي هي اللذة التي نحصل عليها خلاله، ومن ثم نرى أن العمل وحده هو الشيء الممتع، وهو وحده يكفي".

يشير أرسطو في عبارته هذه إلى مفهوم تناوله الفلاسفة عبر قرون متتالية، لكونه شغل الفرد منذ الأزل، ألا وهو معنى السعادة التي تتأتى من خلال اللذة، والمتعة. وكلا الإحساسين المشار إليهما، ليسا مجرد شعور روحي مجرد أو فعلًا جسديًا حسيَّا عبثيًا لا معنى له، بل يرتبطـان مباشرة بالذهن والتفكير، أي تلك الطريقة التي من خلالها يصل المرء إلى سعادته.

بيت شعر للمتنبي، قطعة موسيقية لموزارت، وربما لوح شكولاتة، طبقٌ شهي طهي على مهل، فِلْم سينمائي، معادلة علمية، رقصة، أو مداعبة الشمس ساعة ظهيرة بجانب بركة ماء، كلها أشياء قد تمنحك سعادتك المنشودة. وهي أشياء قد يمارسها بعينها أفراد متعدّدون، لكنهم لا يصلون إلى النتيجة نفسها، أو لا يتحصلون على متعة كاملة، بل ربما يجد بعض فيها ضربًا من البلادة تحيله إلى المُمِل.

هذا التفاوت في التأثير، فضلًا عن كونه صادرًا عن الفروقات الفردية من شخص لآخر، وتجربــة وأخرى، إلا أنه يعود في جزء رئيس منه إلى أن «السعادة» بحسب أرسطو ترتبط أيضًا بـ «الحكمة» التي تحازُ من خلال التأمل. والتأمل يعني استغراقنا في الأشياء، تماهينا مع اللحظة، وبحثنا عن البهجة في الآن، وليس ما بعد العمل. إنه فعل يجعل الواحد منا منهمكًا في زمانه المعيش، لا في أحلامه التي يريد لها أن تكون يومًا ما!

فرائحة العطر، عندما نعملُ حواسنا في استشعارها، ونشمُه ليس بأنفنا فقط، وإنما عبر الروح والعقل. حين تعرف تاريخ هذا النثار المتدفق على جسدك: من أين أتى، وكيف تكوّن، وأي أعشاب وزيوت كريمة، ومزارع غنَّاء، أو جبال شاهقة جُلب منها. حينها، كل هذا التاريخ سيستحيل سردية تستشعرها في روحك في برهة سريعة من الزمن، تنجذب لها، وتجعل لحظة التطيب بالعطر، وكأنها معانقة أبدية بين عاشقين!

لهذا، ليس في ذلك تعقيد لمعنى «السعادة» التي تتحصل لأبسط الناس، ولأفراد من المجتمع لا يحسنون القراءة أو الكتابة. لكنها طريق أخرى في الوصــول إلى النبــع، إلى الأعالي، غير تلك التي يسلكها الناس العاديون، فلكل شخص سعادته التي تتواءم وشأنه.
وبالعودة إلى مفهوم «التأمل»، يرى سقراط أنه «ليس للسعادة حدود أخرى إلا حدود التأمل. حيث إنه كلما تطوّرت قدرتنا على التأمل، تطوّرت إمكانات سعادتنا»، معتبرًا أن هذه العلاقة «أمر غير حاصل بالصدفة، ولكنه من صميم التأمل، إلى حد يمكن معه القول إن السعادة نوع من التأمل».

التأمل نوع من الرياضة الروحية والذهنيــة، تعتمد على المراس وتطويع الذات. ومن خلاله تستطيع أن تبصر السعادة وسط الغابات المشتعلة أو أمواج المحيط المتلاطمة.
هذا المِرانُ لا علاقة له بما يحاول بعضُ المحدثين الترويج له، عبر مفهوم مجتزأ ومشوَّه لـ «الإيجابية»، التي باتت مجرد منتج استهلاكي يسوّق بابتذال فج. وكتابات سطحية بعيدة عن التأمل والدراية، تعملُ على نمذجة الإنسان، وتحويلنا إلى بلهاء نرسم ابتسامات صفراء لا معنى لها، ونوثقها بعدسات أكثر بلادة، ونتداولها على وسائل التواصل الاجتماعي، بوصفها لحظات سعيدة باذخة الفرح.

لقد تحوّلت السعادة من لحظة تُعاش، تقتنص لكي تغمرنا بأنوارها ومتعها، إلى صورة توضع في إنستغرام، ما إن تصطادها الكاميرات الصلدة، حتى ينسكب دم الغزال!
السعادة لا تحتاج إلى ذكريات تطبعها الآلة، أو فيديوهات تتداولها الهواتف النقَّالـة، بل أن ندع أرواحنا تسافر في عليائها، تتماهى مع ما يطربها، أن تكون هي، لا ما يريده الآخرون، حتى لو أن هذه الروح وحيدة، فبإمكانها أن تكون في نشوة مستديمة ما دام الإنسان يعرف الطريق، ويدركُ من أين يحتسي، وكيف يحتسي فنجانه.

نشر في مجلة القافلة عدد نوفمبر/ ديسمبر 2018م بقلم حسن المصطفى.
 
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge