إضاءة

أبتسم للجوال.. ولابنتي الصغرى!

أبتسم للجوال.. ولابنتي الصغرى!

في مستهل حياتي العملية فقدت فرصة عمل رغمًا عني، ولما تقدم بي العمر، فقدت بطاقة العمل حين قذفتها طفلتي بكل براءة من نافذة سيارتي على الطريق السريعة.

كانت بطاقة العمل تفتح لي بوابة الدخول إلى شركتي العالمية، وتفتح لي يومي كله، وبفقدها بدا لي أن دخولي إلى مكتبي في اليوم التالي سيكون مهمة شبه مستحيلة.

تذكرت هذه التجربة التي مررت بها قبل توغل شبكات التواصل الاجتماعي، وقبل أن تصبح جوالاتنا بهذا الذكاء، وتلك السطوة التي ابتلعت حياتنا وفرضت قواعدها للهيمنة الرقمية الكاسحة!

اليوم أسير مدججًا بجوالين وثلاثة حواسيب، وكلها مغلقة بكلمات مرور هي سبيلي للدخول إلى بريدي الإلكتروني الشخصي وبريد العمل، ومتابعة حسابي البنكي وسداد الفواتير، ومتابعة أحوال الأسرة ومواعيد الأطباء، وتجديد الأوراق الثبوتية، وكلمات مرور أخرى للمنصات التعليمية لمتابعة تعليم الأبناء، ولحسابات وسائل التواصل الاجتماعي، في طوفان رقمي جارف لا يمكن تجاهله أو إنكار سطوته!

وصارت الشاشات تفتح بمجرد النظر إليها، أنظر إلى شاشة حاسبي الآلي وأقبض بيدي على جوالي، أنظر إليهما وأبتسم، فتنفتح الشاشات دون أن أردد "افتح يا سمسم"، التي كانت كفيلة بفتح مغارة علي بابا قديمًا، وما زلت أفتقد النظر إلى وجه أمي التي كانت تدعو لي كل صباح، بكلمات مرور سحرية من السماء تنفتح بها مغاليق أموري كلها، قاتل الله كورونا وقيود السفر!

وبمرور الوقت وجدتني أطالع الشاشات أكثر مما أطالع وجه زوجتي وأبنائي وأصدقائي، أبتسم لها حتى تتعرف علي وتفتح لي صفحاتي وحساباتي ومختلف التطبيقات، في وقت لو ابتسمت قليلًا لزوجتي وأهلي وأبنائي لفتحوا لي قلوبهم وعوالمهم الخاصة دون حاجة لأن يتعرفوا علي!

كنت وما زلت من أشد المؤمنين بالتقنية والتحول الرقمي، وبينما كانت كلمات مروري القديمة في أحوال كثيرة هي الرضا والقناعة، تعددت اليوم كلمات المرور، وصارت الرموز والأرقام أكثر تعقيدًا، والذاكرة أكثر وهنًا، وأصبح تأمين الحسابات طقسًا متكررًا ومهمة صعبة، يتحداها ضعف الذاكرة وسطوة النسيان، وحيل المتطفلين وألاعيب الهاكرز والمنتحلين.

أنسى وأخلط أحيانًا بين كلمات المرور لمنصة مدارس أبنائي وكلمة المرور لحسابي على تويتر؛ تصلني تحذيرات منتظمة من البنوك بضرورة توخي الحذر وعدم مشاركة غيري بياناتي الخاصة وكلمات مروري منعًا لاختراق الحسابات، كما تصلني رسائل بريدية تهنئني بفوزي بملايين الدولارات، وأحيانًا عروض استثمارية خيالية من مجهولين، قرروا دون سابق معرفة وضع ملايينهم تحت تصرفي..يا بلاش!

تأخذني نشوة أحلام الملايين الموعودة، فأستيقظ على كابوس ينتزعني من فرحة زائفة، برسالة على جوالي تفيد بتجميد حسابي البنكي، فأفيق من هذا الحلم الرقمي الذي جعلني في لحظة مليونيرًا، وقبل أن أنعم بملاييني الوهمية، جمد حسابي وتركني بلا ريال واحد في جيبي!

أجلس ألتقط أنفاسي لأتذكر كلمة مرور حسابي البنكي، أعتصر ذاكرتي، وأقلب رأسي وقد تحول إلى ما يشبه خزانة جدتي القديمة، فأجد كتابًا أقتنيه منذ فترة ولم أقرأه، وموعدًا حددته لأحدهم، ومتابعة طبية لابني الصغير، وهدية لم أحضرها لابنتي الكبرى، ومقالة لم أنته منها، وأماكن أخطط لزيارتها ولا أفعل، وكلمات مرور مبعثرة كالكلمات المتقاطعة.

وسط هذه الفوضى ألجأ إلى ابنتي الصغرى، أحتضنها وأشاركها ابتسامتي كما أفعل وزيادة حين أبتسم لشاشات الجوالات والحواسيب، أتوكأ على ذاكرتها الخضراء، وأزودها بكلمات مروري لتحفظها لديها، تسعفني بها عند الحاجة، لأعود مجددًا إلى عوالمي الخاصة المليئة بالضجيج والزحام!


ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge