الصدى بين الأسطورة والعلم

الصدى بين الأسطورة والعلم

إنه ألعوبة الأطفال أينما وجدوا مكانًا يردِّد أصوات صراخهم، وهو مادة بحث للعلماء أتاحت لهم تحقيق بعض أكثر الاختراعات تطوُّرًا. إنه الصدى الذي أسر بمهابته وغموضه خيال الإنسان في العصرالحجري، فأضفى عليه مفاهيم خرافية. وهو نفسه ما يساعد الإنسان اليوم على استكشاف حقائق محجوبة عن العين، وتتوزَّع ما بين القلب والأعماق السحيقة في باطن الأرض.

اليوم، وبعدما فسَّر العلم منذ زمن طويل حقيقة الصدى، يبقى من المدهش أن نسمع الكهوف أو الجبال تردِّد كلماتنا إذا ما هتفنا بها بصوت عالٍ. إنها دهشة لا تخلو من الإحساس بشيء من الغموض والشاعرية التي تخاطب الخيال وتدعوه إلى أن يذهب حيثما يشاء.

ويؤكد ديفد هندي، مؤلف كتاب (الضجيج، تاريخ إنساني للصوت والإصغاء)، أنه كان للصدى في الكهوف التي سكنها الإنسان خلال العصر الحجري الأوسط والمتأخر، أي منذ 40 ألف إلى 20 ألف سنة، دور حاسم في تحديد أماكن الرسم والنقش على الجدران الداخلية لهذه الكهوف، بدليل وجودها في الأعماق المظلمة، حيث الصدى أقوى وأوضح، وليس بالقرب من المدخل، حيث الضوء يساعد على الرؤية.

ويضيف هندي أن عالِم الموسيقى، أياكور رزنيكوف، كان أول شخص يحدِّد هذا التوافق المدهش بين الأصداء والفنون. ففي منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، دخل رزنيكوف كهوف أرسي سور كور في فرنسا، ووضع خريطة دقيقة ووصفًا مفصَّلًا لكل ما رأى وسمع، وقرَّر أن حوالي 80% من الرسوم تقع في أماكن تكون فيها الأصوات غير عادية.

ولم يختلف الإنسان القديم في فرنسا عن غيره في العالم على صعيد إيلاء الصدى أهميةً ماورائية، وإن كنا نجهل تفاصيل مفهومه له، إذ يؤكد هِندي أن الفن الصخري في هورش كانيون بولاية يوتاه الأمريكية، وفي وادي هايروكليف في ولاية أريزونا الأمريكية، هي بالتحديد الأماكن نفسها التي تكون فيها الأصداء أقوى، أو ينتقل فيها الصوت إلى أماكن أبعد. كما أن لدى قبيلة الهنود الحمر الشيروكي عددًا لا يُحصى من أسماء "الصخور التي تتكلم".

أساطير طال عمرها

ظلَّ بقاء الصدى أسير الأساطير الخرافية حتى ما بعد نشوء الحضارات القديمة، فعندما اجتهد الإغريق في تفسير ظواهر الطبيعة، غالبًا ما نسجوا أساطير تفسِّر هذه الظواهر من خلال أبطالهم الأسطوريين وآلهتهم الوثنية.

وتقول الأسطورة إن حورية حسناء اسمها إيكو أثارت حفيظة هيرا بكثرة ثرثرتها عن علاقة زيوس بالإنسيات، فعاقبتها بأن سلبتها القدرة على الكلام، وسمحت لها فقط بترديد الكلمة الأخيرة. وتضيف صياغة أسطورية أخرى أن إيكو أحبت نرسيس الجميل، لكنه هجرها عندما وجد أنها لا ترد عليه إلا بالكلمة الأخيرة، فذبلت وخارت قواها حتى لم يبق منها إلا هذا الصوت الذي يشكِّل الصدى في الجبال، واسمها للدلالة على الصدى في اللغات الأوروبية (Echo).

أسطورة أخرى تروي أن (بان) أحبَّ إيكو، لكنها أهملته ولم تستجب له، فغضب وأثار الرعاة ضدها فقتلوها ومزَّقوها إربًا إربًا، ووزَّعوا قطعها على الأرض كلها. ومنذ ذلك الحين صارت إيكو في كل مكان، واستطاعت وهي ميتة أن تُسمِع صوتها.

أما العرب فقد اعتقدوا قديمًا أن الصدى هو صراخ طير يخرج من رأس جثة من مات مقتولًا ليطلب الثأر. وما كان لهذه الأساطير أن تتبدَّد نهائيًا إلا بظهور الجهود الأولى لدراسة الصوت علميًا، بدءًا من القرن التاسع الميلادي على يد العالِم المسلم الرازي، ومن ثم نضجت هذه الدراسات في عصر التنوير الأوروبي على أيدي ليونار أولر وجوزف لوي لاغرانج وجان لورون دالامبير في القرن الثامن عشر، حين وضعت أسس علم الصوتيات الحديث، الذي لا يزال يشهد مزيدًا من الاكتشافات حتى يومنا هذا.

حقيقته العلمية

الصدى هو انعكاس لصوت يصل إلى مسامع الشخص متأخرًا بعض الوقت عن الصوت الأصلي، ومن ثم يتلاشى ببطء. وترتبط مدة هذا التأخير بالمسافة الفاصلة بين مصدر الصوت والمساحة الصلبة العاكسة له، مثل الجدران الكبيرة أو الجبال، أو حواف الآبار العميقة. ولهذا فإن الصدى الذي تردِّده الجبال عبر الأودية أو الكهوف العميقة، يستغرق وقتًا أطول بكثير من ذلك الذي يتردَّد في قاعة كبيرة.

ولكي تستطيع الأذن البشرية سماع الصدى يجب أن تزيد المدة الزمنية الفاصلة ما بين إطلاق الصوت وعودة انعكاسه على عشر الثانية. ولأن متوسط سرعة الصوت في الهواء هي 343 مترًا في الثانية الواحدة، يجب على المساحة العاكسة للصوت أن تكون على مسافة تزيد على 17 مترًا لتشكل صدًى مسموعًا.

 

* نُشر في مجلة القافلة عدد يناير/فبراير 2021م.

 

Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge