المسرح في العصر الرقمي.. لماذا لم يفقد مكانته اليوم؟

المسرح في العصر الرقمي.. لماذا لم يفقد مكانته اليوم؟

سيبقى الترفيه جانبًا مهمًا من حياتنا، سواء أكان فرديًا أم جماعيًا، فهو يحاكي إنسانيتنا في أسمى وجوهها، ويقدِّم لنا المتعة والرضا الذاتي. وفي ظروف وسياقات معينة، يكون الترفيه شكلًا من أشكال التنمية الثقافية والفكرية.

وتُعد رواية القصص على مر العصور باكورة وسائل الترفيه، التي تنتقل من جيل إلى جيل عبر كلمات شفهية، وكان من أبرز وسائل نشرها هو فن المسرح، الذي لم يفقد شيئًا من جاذبيته مع مرور الزمن؛ بل يمكننا الجزم أن حضوره يتعزَّز باستمرار إلى يومنا هذا، حتى بعدما أصبح العالم الرقمي بشتى أنواع الترفيه في متناول أيدينا.

نكهةٌ خاصة لرواية القصص

تعد كل وسائل الترفيه المبتكرة حديثًا مريحة وممتعة، لكنها تؤدي إلى الإحساس بالوحدة، فينتهي الأمر بالشخص إلى أن يشاهد معظم هذه العروض وحده، فيغرق في عالمه الخاص مع عروض يتفاعل معها وحيدًا وكأنه في فقاعة صغيرة. أما المسرح فهو شيء آخر؛ حيث يسمح بدخول أشخاص آخرين إلى هذه الفقاعة، حيث يعيش كلُّ فرد من الحضور سحر المسرح الحي، وهو من بين الأماكن القليلة الأخيرة على وجه الأرض، حيث يواجه كل فرد في القاعة العرض الفني نفسه، ما يفرض رابطًا وجوديًا بين الحاضرين في لحظات خاصة يختبرونها سوية.

وقد يقول البعض إن هذا المنطق ينطبق أيضًا على الأفلام السينمائية، ولكن الأمر صحيح جزئيًا فقط؛ إذ إننا نتشارك تجربة مشاهدة الفِلم مع بقية الجمهور فقط، أما في المسرح فيمكننا مشاركة التجربة مع الممثلين على الخشبة أيضًا، حيث نرى ردود أفعالهم الحية.

لا يزال المسرح موجودًا اليوم لأن البشر يحبون سماع القصص، وبأي طريقة كانت، ويبقى لكلِّ شكل من أشكال روايتها طريقته الخاصة التي تعطينا مزيدًا من الفرص للهروب من واقعنا الحالي، ولفهم العالم من حولنا بصورة أفضل، حيث إن قراءة الروايات عن أشخاص مختلفين عنا تُولِّد التعاطف، ومشاهدة الأفلام تُعزِّز مشاعر الترابط الجماعي، فيما يعطينا المسرح شعورًا إضافيًا بالحيوية والتجربة المشتركة. ومما لا شك فيه أن معظم أشكال الفن، من السينما إلى المسرح إلى الأدب، قد واجهت بالفعل أزمات هوية في مواجهة التطورات التقنية، ولكن بقي لكل واحد منها نكهته الخاصة.

المسرح يحاكي إنسانيتنا

وعلى الرغم من أن للمسرح عديدًا من الأوجه، إلا أن الغرض الأساس منه هو قدرته على تنوير جمهوره ومنحهم تجربة تمتد إلى أبعد من مجرد الاستمتاع بالعرض الفني، فالعروض المسرحية تحاكي الجمهور من الناحيتين الفكرية والعاطفية.

وقد عالج المسرح حالات إنسانية ثابتة، مثل الحُب والكراهية والحرب والسلام، كما في عديد من مسرحيات شكسبير الخالدة، التي لا تزال تُعرض إلى يومنا هذا كهاملت وماكبث، وروميو وجولييت، وغيرها. كما يطرح المسرح مشكلات مثيرة للجدل محاولًا إحداث تغيير بشأنها.

ومن الأمثلة على ذلك مسرحية أنتجتها مجموعـة من الشبان في الريف الفلبيني كانت تركز على محنة العمال الأطفال المستغَلين في مزارع قصب السكر في الفلبين، حيث قام الأطفال أنفسهم بأداء المسرحية، لكي تصل إلى جمهور الحاضرين بطريقة أسهل، لتُعرض على مسارح سبع مدارس في مناطق مختلفة. وقد أدَّت هذه المسرحية إلى دفع السياسيين المحليين إلى تبنِّي مطالب الأطفال بحياة كريمة ومستقبل أفضل، وسن قوانين لحماية حقوقهم.

وأخيرًا، سواءٌ أكان وجود المسرح لتوفير تجربة اجتماعية مشتركة في عصر العزلة الرقمية، أم لإرسال رسائل اجتماعية مختلفة، أم لمجرد التسلية، يبقى المسرح أبا الفنون، الذي لا يزال يُضيف إلى المشهد الثقافي في أي بلد من البلدان قيمةً وثراءً. لذلك ما زلنا نرى كثيرًا من المسارح لا تزال تُقام في عديد من البلدان الحريصة على غِناها الثقافي، مثل مسرح البحرين الوطني الذي اُفتتح في عـام 2012م، ودار الأوبرا الكويتية في 2016م، والمسرح الوطني في المملكة في يناير 2020م، لتثبت جميع هذه الصروح أن المسرح سيبقى فنًا راقياً على مر الزمن.

* نُشر في مجلة القافلة، عدد مارس/أبريل 2020م.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge