توم بارغر: إرثٌ خالدٌ ومغامرة ملحمية
 
            عالمي أكتوبر 02, 2025 - بقلم
ضم الفريق المتجه إلى الربع الخالي في يناير 1938م، من اليسار إلى اليمين، الجيولوجي جيري هاريس، والسائقان شوبي وإبراهيم، والخادم محمد بن عبداللطيف، والطباخ صالح، والجندي صالح، والدليل خميس بن رمثان، والجندي محمد بن سليمان، والجيولوجي توم بارغر.
روح الريادة
بصفته أحد رواد الاستكشاف الأوائل، تُعدّ قصة توم بارغر، الرئيس وكبير الإداريين التنفيذيين السابق للشركة ورئيس مجلس إدارتها، مغامرةً ملحميةً لا تزال مستمرةً حتى اليوم
"لا أعرف ما الذي يمكنني أن أفعله معك، غير أنّي سعيد بوجودك".
من المؤكد أن هذه الكلمات التي قالها ماكس ستاينكي تركت توم بارغر في حالة من الارتباك والطمأنينة في آن واحد، فمع أن ستاينكي ربما لم تكن لديه خطة فورية للاستفادة من هذا الموظف الجديد الذي سافر عبر العالم للعمل كمساح جيولوجي في منطقة الامتياز الشاسعة في المملكة العربية السعودية في عام 1937، فإنه لم يهدر أي وقت في تكليف بارغر بالعمل. أما ما لم يكن بارغر يعرفه في ذلك الوقت فهو أنه قد أصبح أحد المستكشفين الرواد الذين سيُقدَّر لهم أن يساعدوا في تشكيل ملامح المسار المذهل لدولة ناهضة.
وقصة بارغر نفسه ليست أقل إثارة.
 
        رحلة إلى المجهول 
واجه الشاب بارغر، بعد ست سنوات فقط من تخرجه من الجامعة، التحديات القاسية التي فرضها الكساد العظيم، الذي دفع الاقتصاد الأميركي إلى حالة من الفوضى والانهيار وقلل بصورة كبيرة من فرص العمل في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين.
فقد عمل بارغر بعد تخرجه مساحًا وعامل مناجم في كندا، ثم مهندسًا، ثم مديرًا مساعدًا في منجم راديوم، ثم أستاذأ مشاركًا في مجال التعدين في الجامعة التي تخرج منها، وهي جامعة داكوتا الشمالية، كل ذلك ولم يتجاوز سنه 26 عامًا فقط.
ثم تلقى بارغر، أثناء عمله في مجال التعدين، كتابًا من شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا (سوكال)، يدعوه إلى إجراء مقابلة للحصول على وظيفة مساح جيولوجي ضمن طاقم مسحٍ سيزمي في المملكة العربية السعودية.
وترك بارغر انطباعًا قويًا خلال تلك المقابلة، وبعد خمسة أسابيع فقط، كان في الخُبر، حيث تلقى ذلك الترحيب غير المعتاد من ستاينكي.
وباشر بارغر بالعمل على الفور، فجاب صحاري المملكة ووصل إلى عمق الربع الخالي، وهناك انضم إلى جيري هاريس، وهو جيولوجي أعلى، في إجراء استكشاف جيولوجي لمنطقة تبلغ مساحتها 40 ألف ميل مربع لم تطأها قدم أي مواطن غربي قبل ذلك.
وهكذا أصبح بارغر في قلب الحدث، إذ أدت رحلاته الميدانية عبر الصحراء القاسية إلى اكتشاف نتوءات صخرية تبشر بوجود مناطق منتجة تحتها، والعثور على احتياطيات نفطية أصبحت شريان الحياة لدولة مزدهرة.
وبمساعدة الدليل الأسطوري خميس بن رمثان، الذي أطلق عليه بارغر لقب «دليل الأدِلَاء»، كان بارغر وزملاؤه الرواد يصنعون التاريخ.
كانت مهارات خميس بن رمثان بوصفه دليلًا محترفًا أسطورية بمعنى الكلمة. ففي هذا الشأن يتذكر بارغر أنه في إحدى المرات أثناء سفره مع الدليل في الصحراء، سأله بن رمثان عما إذا كان نجم الشمال قد تحرك، فاستغرب ذلك التساؤل منه، وقال معلقًا في وقت لاحق: «في البداية لم أكن أعرف ما يعنيه، لكنه أوضح ذلك أكثر وقال إنه على حد علمه، فإن نجم الشمال لم يكن في المكان الصحيح. ولأنه لم يسبق له أن ذهب إلى هذا الحد في اتجاه الجنوب، فقد افترضت في ذلك الوقت لأننا كنا في بلد مجهول، ربما كانت «بوصلته البشرية المدمجة» خاطئة بعض الشيء. لم أدرك أنه كان على حق إلا بعد سنوات عديدة، بعد أن سافر جنوبًا بمقدار نحو ثلاث درجات من خط العرض، أو أكثر من مائتي ميل جنوبًا مما كان عليه في أي وقت مضى. لقد كان خميس يرى نجم الشمال في ذلك الوقت من زاوية مختلفة تمامًا، وسيكون من الصواب قوله إنه قد تحرك. أشك في وجود أكثر من ستة أشخاص على وجه الأرض كانوا سيلاحظون الفرق في ذلك الوقت».
 
        ولادة مجتمع جديد 
ورغم أن بارغر قد انخرط بكل جوارحه في هذه المغامرة في المملكة، إلا أن شيئًا ما كان مفقودًا.
فقد كان بارغر قد تزوج، قبل ثلاثة أسابيع فقط من السفر إلى المملكة، من كاثلين راي في 18 نوفمبر 1937م.
وكان هذان الزوجان، المتزوجان حديثًا، يتوقعان ألا ينفصلا عن بعضهما إلا لفترة قصيرة فقط، ولكن الحرب العالمية الثانية ونقص المساكن في الظهران جعلا كاثلين تنتظر سبع سنوات طوال قبل أن تتمكن من الانضمام إلى زوجها.
وانضمت إلى كاثلين زوجات أخريات لموظفي شركة سوكال مع أطفالهن، حيث كان لوجودهن تأثير كبير في تغيير ملامح الحياة في الظهران.
فقد كانت كاتلين فارسة ماهرة، ولعبت دورًا بارزًا في تنظيم إسطبلات خيول مزرعة الهوايات في الظهران.
 
        وفي هذه البيئة الفريدة التي تجمع بين المألوف والغريب، أنجبت كاثلين وربَّت مع زوجها ستة أطفال، وهم آن، ومايكل، وتيم، وماري، ونورا، وتيريزا. وضم الحي السكني في الظهران مدارس على الطراز الأمريكي، وكانت الصحراء الشاسعة المفتوحة بمثابة الحديقة الخلفية له. ولم يكن الجيولوجيون وحدهم هم الرواد، بل كانت أسرهم أيضًا، إذ أرسوا الأساس لحي سكني سيصبح بعد ذلك موطنًا لآلاف الأسر على مدى العقود القادمة.
الإرث الخالد 
واندمج بارغر في المملكة بكل جوارحه وجاب بنشاطه الاستكشافي طولها وعرضها، وكان ذلك في كثير من الأحيان برفقة الدليل المتميز خميس بن رمثان الذي أجاد بارغر بفضله اللغة العربية واكتسب فهمًا عميقًا للثقافة البدوية، وأتاحت له هذه المهارات والقدرات، التي كانت نادرة في شخص غربي في المملكة في ذلك الوقت، بناء علاقات حقيقية مع القادة السعوديين والمجتمعات المحلية على حد سواء.
 
        وبعد عامين فقط، عُيِّن كبيرًا للإداريين التنفيذيين، ثم رئيسًا لمجلس الإدارة في عام 1968م، وتقاعد بعد ذلك بعام واحد.
ويجسد توم بارغر وأسرته، في كثير من النواحي، جوهر ما تمثله أرامكو السعودية، فعندما انضم إلى أنشطة البحث عن النفط في عام 1937م، كان لدى الشركة 600 موظف، في حين أنه عندما تقاعد كان للشركة 11 ألف موظف وتنتج أكثر من مليار برميل من النفط سنويًا. ولم يفقد بارغر أبدًا، طوال مسيرته المهنية، التركيز على أن خلف الأرقام أشخاصًا، فقد كان لديه إيمان راسخ بالثقة والاحترام والتفاهم بين الثقافات.
والآن يعمل لدى أرامكو السعودية نحو 75 ألف موظف، وتملك أحياءً سكنية ومرافق تشغيلية عالمية المستوى.
ولم تكن حياة بارغر، الذي تُوفي في عام 1986م، في أرامكو مجرد وظيفة، بل كانت بمثابة مسعى لبناء دولة، وما بدأ كمغامرة ملحمية لا يزال مستمرًا حتى اليوم، حيث يظل إرثه الواضح في جميع أنحاء المملكة رمزًا لعصر لا يزال صداه يتردد حتى يومنا هذا ليذكرنا بأن خلف خطوط الأنابيب والمصافي الضخمة تكمن قصص أفراد بنوا حياتهم في الرمال وأقاموا جسرًا خالدًا بين ثقافتين.
 
                     
                     
                    