اختار اللغة

توم بارغر: إرثٌ خالدٌ ساهم في بناء أمة

1_67

عالمي

ضم الفريق المتجه إلى الربع الخالي في يناير 1938م، من اليسار إلى اليمين، الجيولوجي جيري هاريس، والسائقان شوبي وإبراهيم، والخادم محمد بن عبداللطيف، والطباخ صالح، والجندي صالح، والدليل خميس بن رمثان، والجندي محمد بن سليمان، والجيولوجي توم بارغر.

روح الريادة

"لا أعرف ما الذي يمكنني أن أفعله معك، غير أنّي سعيد بوجودك".

من المؤكد أن هذه الكلمات التي قالها ماكس ستاينكي تركت توم بارغر في حالة من الارتباك والطمأنينة في آن واحد، فمع أن ستاينكي ربما لم تكن لديه خطة فورية للاستفادة من هذا الموظف الجديد الذي سافر عبر العالم للعمل كمساح جيولوجي في منطقة الامتياز الشاسعة في المملكة العربية السعودية في عام 1937، فإنه لم يهدر أي وقت في تكليف بارغر بالعمل. أما ما لم يكن بارغر يعرفه في ذلك الوقت فهو أنه قد أصبح أحد المستكشفين الرواد الذين سيُقدَّر لهم أن يساعدوا في تشكيل ملامح المسار المذهل لدولة ناهضة.

وقصة بارغر نفسه ليست أقل إثارة.

2_6
توماس سي. بارغر في 1961م.

رحلة إلى المجهول

واجه الشاب بارغر، بعد ست سنوات فقط من تخرجه من الجامعة، التحديات القاسية التي فرضها الكساد العظيم، الذي دفع الاقتصاد الأميركي إلى حالة من الفوضى والانهيار وقلل بصورة كبيرة من فرص العمل في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين.

فقد عمل بارغر بعد تخرجه كمساح وعامل مناجم في كندا، ثم كمهندس، ثم كمدير مساعد في منجم راديوم، ثم كأستاذ مشارك في مجال التعدين في الجامعة التي تخرج منها، وهي جامعة داكوتا الشمالية، كل ذلك ولم يتجاوز سنه 26 عامًا فقط.

ثم تلقى بارغر، أثناء عمله في مجال التعدين، كتابًا من شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا (سوكال)، يدعوه إلى إجراء مقابلة للحصول على وظيفة مساح جيولوجي ضمن طاقم مسحٍ سزمي في المملكة العربية السعودية.

وترك بارغر انطباعًا قويًا خلال تلك المقابلة، وبعد خمسة أسابيع فقط، كان في الخُبر، حيث تلقى ذلك الترحيب غير المعتاد من ستاينكي.

وباشر بارغر بالعمل على الفور، فجاب صحاري المملكة ووصل إلى عمق الربع الخالي، وهناك انضم إلى جيري هاريس، وهو جيولوجي أعلى، في إجراء استكشاف جيولوجي لمنطقة تبلغ مساحتها 40 ألف ميل مربع لم تطأها قدم أي مواطن غربي قبل ذلك.

وهكذا أصبح بارغر في قلب الحدث، حيث أدت رحلاته الميدانية عبر الصحراء القاسية إلى اكتشاف نتوءات صخرية تبشر بوجود مناطق منتجة تحتها، والعثور على احتياطيات نفطية أصبحت شريان الحياة لدولة مزدهرة.

وبمساعدة الدليل الأسطوري خميس بن رمثان، الذي أطلق عليه بارغر لقب "دليل الأدِلَاء"، كان بارغر وزملاؤه الرواد يصنعون التاريخ.




D_02937_090
توماس وكاثرين بارغر، برفقة مولودهم الجديد، الظهران ١٩٤٨.

ولادة مجتمع جديد

ورغم أن بارغر قد انخرط بكل جوارحه في هذه المغامرة في المملكة، إلا أن شيئًا ما كان مفقودًا.

فقد كان بارغر قد تزوج، قبل ثلاثة أسابيع فقط من السفر إلى المملكة، من كاثرين راي في 18 نوفمبر 1937.

وكان هذان الزوجان، المتزوجان حديثًا، يتوقعان ألا ينفصلا عن بعضهما إلا لفترة قصيرة فقط، ولكن الحرب العالمية الثانية ونقص المساكن في الظهران جعلا كاثرين تنتظر سبع سنوات طوال قبل أن تتمكن من الانضمام إلى زوجها.

وعلى الرغم من أن بارغر أخذ إجازتين في عامي 1940 و1943 للقيام بزيارات قصيرة لأهله، فإن مغامرة كاثرين لم تبدأ جديًا إلا في عام 1945.

وانضمت إلى كاثرين زوجات أخريات لموظفي شركة سوكال مع أطفالهن، حيث كان لوجودهن تأثير كبير في تغيير ملامح الحياة في الظهران. فالموظفون الذكور يمكنهم تحمل صعوبة العيش في مساكن ضيقة تفتقر إلى مقومات الراحة، أما الأسر فتحتاج إلى بيوت تشعرهم بالراحة كما لو كانوا في بيوتهم الأصلية إذا ما كان لهم أن يبقوا، وهكذا نشأ الحي السكني في الظهران.

و في هذه البيئة الفريدة التي تجمع بين المألوف والغريب، أنجبت كاثرين وربَّت مع زوجها ستة أطفال، وهم آن، ومايكل، وتيم، وماري، ونورا، وتيريزا. وضم الحي السكني في الظهران مدارس على الطراز الأمريكي، وكانت الصحراء الشاسعة المفتوحة بمثابة الحديقة الخلفية له. ولم يكن الجيولوجيون وحدهم هم الرواد، بل كانت أسرهم أيضًا، إذ أرسوا الأساس لحي سكني سيصبح بعد ذلك موطنًا لآلاف الأسر على مدى العقود القادمة. الأجيال اللاحقة مثلهم مثل جيل الرواد، سينشؤون في ظل رؤية فريدة من نوعها للعالم من حولهم، فلم يروا المملكة كصورة مجردة بعيدة عنهم، بل كمشهد ملموس بكل جماله وتعقيداته ارتبط شبابهم به.

الإرث الخالد

واندمج بارغر في المملكة بكل جوارحه وجاب بنشاطه الاستكشافي طولها وعرضها، وكان ذلك في كثير من الأحيان برفقة الدليل المتميز خميس بن رمثان الذي أجاد بارغر بفضله اللغة العربية واكتسب فهمًا عميقًا للثقافة البدوية، وأتاحت له هذه المهارات والقدرات، التي كانت نادرة في شخص غربي في المملكة في ذلك الوقت، بناء علاقات حقيقية مع القادة السعوديين والمجتمعات المحلية على حد سواء.

وقد أثبتت هذه المجموعة الفريدة من المهارات قيمتها العالية عندما انتقل بارغر إلى إدارة العلاقات الحكومية في عام 1940، حيث كانت الدبلوماسية هي العامل الأهم. ومع أن هذا المجال كان بعيداً كل البعد عن الجيولوجيا، فإن بارغر أظهر مواهب دبلوماسية وأتقن هذه المهنة الجديدة وأجاد في جميع الجوانب ذات الصلة بالعلاقة المعقدة والمتطورة بين شركة النفط الأميركية والمملكة، مما أدى إلى تعيينه نائبًا للرئيس للعلاقات الحكومية في عام 1958، وفي العام التالي أصبح رئيسًا لشركة أرامكو.

2_24
عبدالله الطريقي، مدير عام البترول والثروة المعدنية، ينضم إلى توم بارغر، نائب رئيس أرامكو، في حفل افتتاح معمل حقن الغاز في عين دار في فبراير 1959م. أسهم الطريقي خلال فترة عمله في هندسة تغييرات مهمة في العلاقة بين الحكومة وأرامكو.

وبعد عامين فقط، عُيِّن كبيرًا للإداريين التنفيذيين، ثم رئيسًا لمجلس الإدارة في عام 1968، وتقاعد بعد ذلك بعام واحد.

ويجسد توم بارغر وأسرته، في كثير من النواحي، جوهر ما تمثله أرامكو السعودية، فعندما انضم إلى أنشطة البحث عن النفط في عام 1937، كان لدى الشركة 600 موظف، في حين أنه عندما تقاعد كان للشركة 11 ألف موظف وتنتج أكثر من مليار برميل من النفط سنويًا. ولم يفقد بارغر أبدًا، طوال مسيرته المهنية، التركيز على أن خلف الأرقام أشخاصًا، فقد كان لديه إيمان راسخ بالثقة والاحترام والتفاهم بين الثقافات.

والآن يعمل لدى أرامكو السعودية نحو 75 ألف موظف، وتملك أحياءً سكنية ومرافق تشغيلية عالمية المستوى.

ولم تكن حياة بارغر، الذي تُوفي في عام 1986، في أرامكو مجرد وظيفة، بل كانت بمثابة مسعى لبناء دولة، وما بدأ كمغامرة ملحمية لا يزال مستمرًا حتى اليوم، حيث يظل إرثه الواضح في جميع أنحاء المملكة رمزًا لعصر لا يزال صداه يتردد حتى يومنا هذا ليذكرنا بأن خلف خطوط الأنابيب والمصافي الضخمة تكمن قصص أفراد بنوا حياتهم في الرمال وأقاموا جسرًا خالدًا بين ثقافتين.




مقالات ذات صلة