اختار اللغة

Qais Abdullatif

الزمان عدوّ لدود للورود!

عالمي   -  بقلم 

سفراء المجتمع

ذات مساءٍ بعد مغيب شمسِ يومٍ هادئ من صيف 2006 تسلّلنا أنا وأخي خلسة من البيت، مستغلين انشغال أمّي بصلاة المغرب، بعد أن كانت رفضت بشكل قاطع خروجنا لعدم قبولها بالوجهة التي نقصدها.

 كنت مراهقًا في الثانية عشر من عمري، أحاول استكشاف العالم الواسع، وأتتبع الشغف الكبير الذي كان يحرّكني تجاه كل الأشياء الكبيرة. في الواقع كان كلّ شيءٍ في عيني الصغيرتين كبيرًا في تلك الأيام.

أنا وأخي الذي يصغرني بعامين، كنّا في تلك الأيام قد صنعنا هوسنا الخاص بكرة القدم. وفي صيف 2006 القائظ، استضافت ألمانيا منافسات النسخة الثامنة عشرة من كأس العالم. بطولة ساحرة، وأكثر سحرًا بعيون مراهقَين لم يكتشفا بعد الحد بين الواقع والأحلام.

والدي يكره كرة القدم. هذه حقيقة تأسيسية يجب أن نثبّتها هنا، لأن الأحداث مترابطة كما هو الحال دائمًا. إذن لم نكن نشاهد المباريات في المنزل إلّا لو كانت تعرض مجانًا، ومع انطلاق عصر تشفير القنوات الرياضية، كانت مشاهدة كأس العالم من المنزل مستحيلة، فوالدي كان مستعدًا لأن يرمي أمواله في الشارع عوضًا عن دفعها لمشاهدة أحد عشر شابًا يركضون دون معنى خلف كرة من الجلد يملؤها الهواء. علينا أن نبتكر حلًا، وفي أيام الطفولة، كان لكل المشكلات حلول، من وجهة نظرنا.

في الأيام الأولى من البطولة كنّا نشاهد المباريات من بيت أحد الجيران، والدي كان يقبل على مضض، فيما أمي تتذمر دون أن تقبل "لماذا عليكم أن تزعجوا الجيران؟"، ذات مرّة قال بيل شانكلي، المدرب التاريخي لليفربول: "يظن البعض أن كرة القدم مسألة حياة أو موت، أحب أن أؤكد لهم أنها أكبر من ذلك بكثير". أبي وأمي لم يسمعا بشانكلي، وإن سنحت لهما الفرصة ليعرفاه لأسمعاه ما لا يحبه.

نعود إلى لحظة المغيب، والتسلل من المنزل. كنّا نقصد الدكان المجاور للحصول على عصير قصب السكر. صاحب المحل، المغرم بكرة القدم حد الجنون، رحب بنا قبلها بأيام. إنه يعرض مباريات البطولة على تلفزيون بحجم 16 بوصة، كم كانت كبيرة في تلك الأيام، وكل من له رغبةٌ بالمشاهدة فليتفضل. حينما عرفت أمي بالحكاية، غضبت بشدة: "لماذا تجلسون مع رجالٍ أكبر منكم؟ لا تذهبوا إلى هناك مرة أخرى، وإلا... "شغفنا بكأس العالم كان أكبر من خوفنا من تهديدات أمي. وفي ذلك اليوم تحديدًا، كانت تنتظرنا مباراة البرتغال وإنجلترا. انتهت الليلة بعقاب من الأم وآخر من الأب. هل كانت تستحق؟ أخي يجيب قبلي: سأعيدها ألف مرة إن تطلب الأمر".

قال نجيب محفوظ في ثلاثيته العظيمة: "الزمان عدوٌ لدودٌ للورود". عقدان كامِلان من الزمن مرّا بعد ذلك الصيف. لم نعد بحاجة لزيارة دكان عصير قصب السكر لمشاهدة مباريات كرة القدم، لكننا كما الورود، فعل بنا الزمان فعله.

قيس عبداللطيف
qais.abdullatif@aramco.com