إطلالة

إمّا كلّ شيء، أو لا شيء

إمّا كلّ شيء، أو لا شيء

تذكر كتب السيرة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اتفق مع قريش في صلح الحديبية، دعا علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ليكتب الكتاب فأملى عليه: «بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال ممثل قريش في مفاوضات الصلح، سهيل بن عمرو: «أما الرحمن، فوالله لا ندري ما هو؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليًا بذلك. ثم أملى: «هذا ما صالح عليه محمد رسول الله..» فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبدالله. فقال: «إني رسول الله وإن كذبتموني.» وأمر عليًا أن يكتب محمد بن عبدالله، ويمحو لفظ رسول الله، فأبى علي أن يمحو هذا اللفظ. فمحاه صلى الله عليه وسلم وتمت كتابة الصحيفة.

إن لأفكارنا وقناعاتنا تأثيرًا كبيرًا على سلوكياتنا، وطريقة تعاطينا مع الأحداث والآخرين من حولنا. لذلك نادى الكثير بمراقبة الأفكار فهي كـ software الذي نعمل به ونتفاعل من خلاله. وللسيد براين تريسي كتاب جيد في هذا الجانب بعنوان: «غيّر تفكيرك غيّر حياتك».

ومن المبادئ التي يبدو أن لها انعكاسًا كبيرًا على حياتنا، وكثيرًا ما تترجم في واقعنا أو واقع الناس من حولنا، مبدأ «إما كل شيء أو لا شيء». ويتمثل ببساطة في رفض كل ما لا يوافق -تمامًا- رغباتنا الأولى.

دعونا نتأمل في قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، ونرى كيف أنه كان مفاوضًا من الطراز الرفيع. لم يكن اهتمامه بالشكليات يؤثر على تركيزه على المضامين المهمة، ولم يكن الانتصار للذات مقدّمًا على الانتصار للفكرة، ولم تشغله الكماليات عن الأساسات، ولم يكن صلدًا متعنّتًا بل مرنًا ذكيًا، يعرف تحديدًا ما يريد، وما الذي يمكنه التنازل عنه.

كان عليه الصلاة والسلام واقعيًا، يعلم أنه لا يمكنه أن يأخذ كل شيء، دون أن يقدم في المقابل شيئًا. وكان يعلم كذلك أن الأمور لا تأتي دائمًا كما نحب ونتمنى ونرسم في مخيلتنا.

إن من أهم السمات التي يتحلّى بها الناجحون -كلٌّ في مجاله- هي الواقعية والمرونة في تقبّل الممكن والمتاح، وتجاوز الفجوة بين ما نريد وما هو واقع أو متوفر الآن. أما المثاليون، ولا سيما المتطرفون منهم، فهم لا ينظرون لأي اعتبارات أو معطيات قد تؤثر على مبتغاهم ومرادهم، بل يرون أن على الكون كله أن يلبّي رغباتهم الأولى، وهذا بلا شك نتيجة شعورهم الزائف والمتضخم بـ «الاستحقاق الدائم».

إن تجارب الحياة علمت أبا الطيب المتنبي وعلمتنا أن:
«ما كلُّ ما يتمنّى المرءُ يُدرِكُهُ ...
تجري الرِّياحُ بما لا تَشْتهي السُّفنُ»

إن قبطان السفينة، أو كما يُسمى في الخليج «النوخذة»، حين يكون متمرسًا ذا خبرة واسعة، فإنه يعلم يقينًا أن الطقس لن يكون دائمًا مناسبًا للإبحار كما يحب، بل قد تعترضه عواصف ورياح هوجاء لم يتوقعها، ولكنه يعرف كيف يتعامل معها، ويعرف متى يمد أشرعته، ومتى يطويها.

إن فكرة «إما كل شيء أو لا شيء»، بنرجسيتها غير الواقعية، تحرم أصحابها من خيرٍ كثير ومكاسب جمّة. والواقع يخبرنا أن ليس ثمّة شخص مثالي، ولا وظيفة مثالية، ولا زواج مثالي، ولا تجارة مثالية، ولا حياة «وردية»، وأن المثالية هي أمر موجود في مخيلتنا فقط. والعاقل الفَطِن هو الذي يتقبل الواقع بصدرٍ رَحب ويعمل على تحسينه، ويرضى بالقليل الآن ليكسب الكثير لاحقًا، ويعلم أن الأمور ببساطة لا تأتي دائمًا كما نحب.

 

متعب القحطاني، كاتب وإعلامي سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.

 

Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge