إطلالة

كيف تنشئ مكتبة رديئة؟

كيف تنشئ مكتبة رديئة؟
بحُكم عملي في الصحافة الثقافية تصلني أكداسٌ من الكتب، لا يمكنني اصطحابها كلها إلى البيت، وإلا لن نجد مكانًا نجلس أو ننام فيه، خاصة بعد أن فاضت المكتبةُ، وأصبحنا نضع الكتب في صفوف تشبه أبراجًا آيلة للسقوط.

ربَّيتُ - على مدار ربع قرن – «حاسةً سابعةً» لاكتشاف الكتب الرديئة، بمجرد النظر إلى الغلاف، أو العنوان، أو قراءة جزء من المقدمة، أو كلمة الظهْر. بإمكاني مطالعة أخطاء اللغة والنحو كقطع الأخشاب الضخمة الطافية على صفحة نهر ساكن، وبإمكاني ملاحظة لوحة غلاف لا تتماشى مع عنوان كأنهما جاكت فوق جلباب (وصلتني رواية تدور أحداثها في ريف مصر وعلى غلافها لوحة «امرأة في محطة وقود» للفنان التشكيلي الأمريكي إدوارد هوبر!). بإمكان صور المؤلفين في الخلفية كذلك أن تقول الكثير عن نوعية أعمالهم، خاصة هؤلاء الذين يريدون الظهور في هيئة مفكري العصور الوسطى، وهم يسندون خدودهم على راحات أيديهم.

أطالع الكتاب الرديء في هدية تصلني من الكتب كالتفاحة المعطوبة في سلة. أمدُّ يدي فورًا وأخرجه كما أخرجها. لكنني رغم مرور هذه الأعوام الطويلة لا تطاوعني نفسي على إلقاء كتاب في سلة المهملات، لأن ذلك يرقى بالنسبة لي إلى مستوى الجريمة، فما الحل إذن؟

الحل كان مكتبة وجدناها في مقر عملنا. أنا وزميلي في المكتب نضع فيها تلك الأعمال المعطوبة، نصفُّها بتنسيقٍ جميل كأننا نرتب مكتبة بيتي أو بيته، أو كأن هذه المكتبة مفخرة المكان، مع أننا نشعر بالحرج كلما جاء كاتبٌ ما إلينا ووقف ليلتقط صورة إلى جوارها. لم أختلف أبدًا مع زميلي على المساحة المتاحة لكلينا فيها، كأن الاتفاق على الرداءة نوع من الأخوَّة الجميلة. يضع ما يريد وأضع ما أريد، وحينما يلاحظ أحدنا أن أحد الأعمال يبدو نشازًا في المكتبة (كتاب ضخم وسط مجموعة من الأقزام) ينقله فورًا إلى أقرانه.

ولأن الحياة تأخذ دورتها، لا تكاد المكتبة تمتلئ حتى يأتي الفرج. فكل بضعة أسابيع يهلُّ زميل أو عامل في قسم آخر من أقسام المؤسسة الصحفية التي نعمل فيها ليطلب بضعة عناوين، إذ يرغب في إنشاء مكتبة صغيرة «رُكن» له أو لابنٍ موشك على الزواج، فنصطحبه بكرم بالغ إلى المكتبة ليأخذ منها ما يشاء. نطلب إليه أن يشبك أصابع يديه أمام صدره، ونكدس فوقهما الأعمال، حتى تُصبح في مستوى أنفه. يغادر بغنيمته فرحًا، ولا يعلم أننا أكثر منه سعادة ونحن نطالع المساحة الشاغرة. لا تكف المطابع أو الناشرون عن إصدار الكتب الرديئة وإرسالها، ولا يكف الزملاء عن طلب أعمال يضعونها بديلًا لأسماك الزينة.

في مكتبتنا الرديئة قصص وروايات ودواوين شعر وكتب جغرافيا وتاريخ وتنمية بشرية، ومؤلفون من الشرق والغرب، أتخيل أننا بمجرد أن نغلق مكتبنا ينهضون ويتحدثون ويسخرون منا ويمنحون كل عام أحدهم جائزة نوبل في التفاهة!
 
حسن عبدالموجود، روائي وصحفي مصري.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.

 

 
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge