إطلالة

حقولنا المثمرة

حقولنا المثمرة

لكي تزهر الأشجار وتثمر في كل عام، فهي بحاجة لعناية مكثفة ورعاية مركزة طوال الوقت، وعلى وجه الخصوص في مواسمها السنوية، وكلما زادت عنايتنا بها وبالأرض التي تتغلغل فيها جذورها، كلما زاد عطاؤها في مواسم جني الثمر.

ولعل العاملين في الحقول أكثر معرفة من غيرهم بتلك الخصوصية، وكيفية التعامل مع الشجرة، إذ لم يكن أجدادنا، على سبيل المثال، يقبلون جرح عمتنا النخلة إلا من خلال أدوات خاصة وبطرق محددة، وكانوا يتعاملون معها برفقٍ وحنوٍّ، مما جعلهم على مر الزمن أعمقَ ارتباطًا وأكثرَ تعلقًا بها، فكانوا يقضون جلّ يومهم بالقرب منها في الحقول والبساتين، فكأنها فرد من أفراد العائلة ومكون أساس فيها.

وهذا ما يحيلني على الإنسان الذي يحلو لي أن أشبهه بتلك الشجرة أوالنخلة، التي يضمها حقل محب ومكرس لها هو العائلة، والتي يمكننا تشبيهها من جهة أخرى أيضًا بالشجرة الأم، التي ينصرف همها ويتركز جهدها في صناعة أبنائها. وكل قادم جديد إلى هذه الحياة ينمو ويترعرع في ظل شجرة أمٍّ تُعنى به وتسهر عليه لكي ينمو ويشتد عوده وتخضر أغصانه وتنضج ثماره.

عائلة اليوم أصبحت مثل الشجرة المتفرعة الأغصان، بجذورها الضاربة في الأرض، وأوراقها التي تصافح أشعة الشمس وهبوب الرياح. وحيث إننا اليوم نعيش في عالم ملؤه الفوضى، فعلينا أن نذهب إلى ما يطلق عليه علماء النفس «الروح المحاربة»، ونحاول إصلاح حياتنا ونبتعد عن أفكار إصلاح العالم، فهذه ليست مسؤولية الفرد، الذي عليه أن يهتم بإصلاح شجرته القوية كي يصنع من خلالها بستانه المصغر، ومن بعدها يرى حقوله المثمرة، بدلًا من الاهتمام باختلاس النظر لبساتين الآخرين، وتمني ذبول أشجارهم.

ومن هنا يأتي الاهتمام الأول بأن نصلح حياتنا وأن نتقبلها، ونسعى للتخلص من أَسْر الحياة الافتراضية التي أصبحت تهيمن على تفكيرنا وتضع الأغلال في أيدينا، فلا تكاد أقدامنا تتعرف على ملامح الطريق الذي نسير عليه كي نتمكن من اتخاذ الخطوات الصحيحة والقرارت السليمة. وهذا ما يدعو للقبول بالانسلاخ من جلدنا القديم، والمحافظة على القوة التي اكتسبناها منه، والانطلاق في مواسم الزراعة الداخلية، فنراعي الشجيرات التي هي بحاجة لمزيد من العناية والغذاء، وننشغل بكيفية إصلاح التربة (النفس) كي تصبح مهيئة لتقبل مزيد من النباتات والبذور الجديدة، وقبل ذلك تحديد ما نريد زراعته داخل تلك النفس لتكون خطواتنا مقبلةً في تلك المرحلة على الاستزراع الداخلي.

حينما نشبّه الإنسان بالشجرة والعائلة بالحقل فهذا ما يدعونا لمزيد من التفكير بما ستغدو عليه حياتنا حينما نكبر، ونبدأ في النظر لحقولنا، ونتساءل إن كانت ستصبح خضراء كما نريد، أم أننا سننتظر مرور الزمن دون الاهتمام بالأرض، ونردد بعد مضي العمر وفوات الأوان أنها أرض غير قابلة للزراعة كنوع من التبرير الواهي لأخطائنا وعجزنا عن الوصول إلى ما نمني أنفسنا بالوصول إليه.

 

عبدالوهاب العريض، شاعر وكاتب سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge