قبل زمن ليس ببعيد، لم يكن السفر بالطائرة شائعًا إلا بين طبقة محددة في المجتمع، وللرحلة طقوسها وإتيكيت خاص بها، وكأن المسافر ذاهب إلى حفلة أرستقراطية في العصور الوسطى، فيرتدي ربطة العنق والبدلة الرسمية، ويحمل حقائب السامسونايت الفاخرة، ويحلق لحيته ويكون كما يقولون «على سنقة عشرة».
في مطار أرامكو السعودية في الدمام، انتظرت حتى ينادى على الطائرة المتجهة إلى حقل الشيبة في الربع الخالي، فهذه أول زيارة لي إلى تلك البقعة من الأرض التي تُعدُّ عجيبة تضاف إلى العجائب السبع لكنها أعجوبة صناعية! القاعة صغيرة، والناس قلة يرتدون ملابس مريحة.. بل مريحة جدًّا، والمكتب الذي يتأكد من التذكرة والحقائب أيضًا صغير.
عندما نودي لصعود الطائرة مشينا في خط مستقيم على إشارات رُسمت على أرض المطار المتجه إلى الطائرة لا نتجاوزها. كنت أول الجالسين في الطائرة تقريبًا، ثمّ بدأ المسافرون «الأرامكاويون» بالجلوس كلٌّ في مقعده. بدأ الركاب يسلمون عليَّ كأنني ساكن الحي الجديد، لكنهم عرفوني جميعهم ولم أعرف أيًّا منهم! قال لي الشاب الوسيم الذي جلس بجانبي: أنت من قسم النشر وأتيت من أجل تغطية المناسبة العائلية في شيبة، أليس كذلك؟ تفاجأت من معرفته بي، ولكن اتضح لي كل شيء بعد سماعي للحوارات التي كانت بينهم.
يصيح شاب: «وينك أمس ما جيت؟ انتظرناك»، فيرد آخر من بعيد: «ما يريد يشوف أحد في الويكند»، فيضحك الركاب جميعهم. وشاب آخر يقول: «أين فهد لا أراه! غريب ما عنده إجازة، إن شاء الله خيرًا». يدخل شاب آخر يبتسم ويسلم على جميع الركاب ويسلِّم عليَّ أنا أيضًا ويقول: «الله حيِّ القافلة الأسبوعية منورين شيبة»، فأجيبه: «أنت فهد، أليس كذلك؟». لم أتفاجأ هذه المرة فيبدو أنهم يعرفون كلّ تفاصيل رفقائهم في الطائرة. شعرت أنني على متن طائرة عائلية، وأنا الضيف الوحيد! الحمد لله بدا أنني مرحب بي بينهم! تذكرت حينها الحافلة المتجهة إلى «الديسة» عام 1993م عندما عُينت مدرسًا في إحدى قراها.
عام 1993م، وبعد أن لملمت كلَّ أشيائي في حقيبة، مضيت إلى باص الديسة المُنطلق من مدينة العقبة أقصى جنوب الأردن. وفي الباص الذي يذهب مرة واحدة في اليوم، لم يحتج الأمر فراسة كبيرة ليعرف كل الركاب أنني الأستاذ الجديد في قرية «منيشير» التي تبعد عن الديسة، القرية الأكثر حظًا، 12 كيلومترًا. استمعت لأحاديثهم وعرفت أن مبارك قد ذهب إلى مدينة العقبة ليشتري تلفاز 20 بوصة لجهاز العروس، وعرفت أيضًا أن عوض عادة ما يتأخر ويؤخِّر الركاب معه فهو يحب التباهي بأن يتناول غداءه على طاولة في مطعم. فيقول آخر مستهزئًا: «الله يرحم جدّه!». والحاجة مزنة التي تشكو من ألم في مفاصلها هي الأخرى في مراجعة للمستشفى العسكري في المدينة.
وأخيرًا، تحرك الباص وبعد ساعة من المسير وسط رمال صفراء وجبال وردية، وصلنا إلى الديسة وأشار لي السائق أن تلك هي «المنيشير». رجوته أن يوصلني مقابل أجره لكنه رفض وقال هذا نهاية خط الباص. ترجلت وهدَّت حقيبتي حيلي، فتارة أحملها على كتفي وتارة على ظهري وأنا أعتقد أن «منيشير» فعلًا قريبة كما قال سائق الباص. نعم كنت أراها أمامي لكنها لا تقترب أبدًا. شعرت للحظة أنها تمشي معي ولكن بوتيرة أسرع فلا ألحقها. كانت درجة الحرارة مرتفعة والشمس عامودية على رأسي وقارورة الماء التي كانت معي شربتها أول الطريق. أتصبب رعبًا من نهاية الرحلة، ولم يعد هاجس الوصول يؤرقني بل هاجس البقاء على قيد الحياة، لأنني لا أعرف المسافة الحقيقية. وفي الصحراء، وعلى رأي نجاة الصغيرة: «القريب منك بعيد».
بعد فترة بسيطة من العيش في القرية، التي بلغ عدد سكانها وقتها 146 فردًا، أحببتها وعرفت كل شيء عن أهلها، وتفاصيل تاريخ ومشاريع كلّ القاطنين هناك. صرت أعرف لماذا يذهب عوض إلى المدينة كل أسبوع، وماذا يفعل. كما عرفت أيضًا أن الحاج ذيب قد توفيت زوجاته الأربعة وأبناؤه جميعهم ولا يزال بصحة جيدة، لأنه يشرب حليب «النوق» كل يوم! صبَّاح أيضًا ليس من القرية بل من بدو فلسطين المهاجرين، زوَّجه شيخُ القبيلة أختَه حتى يصير واحدًا منهم ويعيش بينهم بارتياح!
هذه الروح والعلاقات الإنسانية هي التي تجعل القاطنين في القرى البعيدة يتحملون شظف العيش وقسوة الطبيعة في القرى النائية. ما نراه اليوم من غرابة في نمط العيش في المناطق النائية هو في الحقيقة ميزة بنظر كثير من الناس. يكفيك منها سكينة الروح وهدوء النفس، وخلوة ووقت للتأمل، وتصفية للذهن والعقل من شوائب وصخب المدن. لا تبتئس لو جيء بك يومًا لتعمل في منطقة نائية، فهي بلا شك فرصة ثمينة للسكينة والهدوء والانفصال عن العالم! وتحية لمجموعة الشباب البواسل الذين يعملون في مناطق أرامكو النائية على روحهم القتالية وتفانيهم في أداء أعمالهم في أحلك الظروف، وما كوفيد- 19 ببعيد!