مؤسسية العلم.. سر التقدم العلمي

مؤسسية العلم.. سر التقدم العلمي

يلحظ الناظر في أي حضارة متقدمة علميًا، في الماضي والحاضر وجود مؤسسات علمية متنوعة المجالات، تمثل القلب النابض والمحرك الرئيس للعلوم والحضارة، حيث تقوم المؤسسات بأهم الأعمال العلمية مثل البحث العلمي والتعليم الأكاديمي والترجمة للمصادر العلمية، والتي تعتبر المثلث للعمل المؤسسي العلمي، وفي المقابل تتنوع أشكال المؤسسات العلمية ولكنها في الغالب لا تخرج عن ثلاثة أشكال، المجامع والمراكز البحثية، والجامعات، والمكتبات.

وتُعد الحضارة اليونانية من أقدم الحضارات التي أسست المؤسسات العلمية، وكان أفلاطون من أوائل المؤسسين للمعاهد الأكاديمية التي تُعنى بالتعليم العالي، وكذلك قامت الحضارة اليونانية ببناء مكتبة الإسكندرية القديمة في مصر، التي تُعرف باسم مكتبة الإسكندرية الملكية في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، والتي تُعد من أوائل المكتبات الحكومية العامة.

المؤسسات العلمية في الحضارة الإسلامية

وشهدت الحضارة الإسلامية على مر تاريخها مؤسسات علمية مختلفة، فمن أبرزها بيت الحكمة في العصر العباسي، الذي قام بتأسيسها الخليفة هارون الرشيد في بغداد، ثم تولى زمام أمورها ابنه الخليفة المأمون. وفي عهد الأخير، بلغ الإنتاج العلمي لبيت الحكمة الذروة، حيث كان وجهة للعلماء والأدباء والدارسين، ومركزًا علميًا تمارس فيها جميع أشكال الأعمال العلمية، وقامت حركة الترجمة العلمية برعاية الخلفاء العباسين بنقل كتب الطب والهندسة والفلك وغيرها من اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية.

واحتوى بيت الحكمة على مكتبة ضخمة من المخطوطات القيمة في شتى المجالات، مثلت الشريان المعرفي للحضارة الإسلامية، ففيها أقسام مخصصة لكل علم ولغة، مما جذب طلاب العلم والعلماء من بلدان شتى لشد الرحال لها، بوصفها معقلًا من معاقل العلم والتعليم في ذاك الزمان، وازدهرت فيها حركة البحث والتأليف بدعم ورعاية الخلفاء العباسين، حيث كانوا ينفقون عليها أموالًا طائلة في سبيل البحث والمعرفة.

المؤسسات العلمية في القرن الحادي والعشرين

يُعد العمل المؤسسي العلمي في القرن الحادي والعشرين ذروة العمل العلمي في تاريخ البشرية، حيث تبنت ودعمت الدول وخصوصًا المتقدمة منها جميع أشكال الأعمال العلمية، من مراكز الأبحاث والترجمة والمكتبات ومؤسسات التعليم الأكاديمية، فلا تكاد تجد دولة لا تملك مؤسسة علمية، وتتسابق الدول للحصول على المراكز الأولى ضمن الترتيب العالمي للجامعات. ولم يعد العمل المؤسسي العلمي حكرًا على الدول، فقد دخلت في هذا المجال الشركات العالمية لتطوير منتجاتها وخدماتها، وشاركت المنظمات الدولية مثل اليونسكو بتأسيس تجمعات علمية، مثل التجمع الدولي للبحوث العلمية.

الآمال والأفكار المستقبلية للمؤسسات العلمية

الحديث عن الآمال والأفكار للمؤسسات العلمية المستقبلية يثير الأشجان، ويحلق بالخيال العلمي إلى عالم واسع يطمح الباحث لتحويله إلى واقع حقيقي. لكن جعل هذه الآمال أمرًا واقعيًا ليس شيئًا مستحيلًا، فكلمة السر هنا هي مؤسسية العلم والتعاون والدعم المستدام. ومن الأفكار العلمية التي تراود خيالي العلمي، وإن كانت هناك محاولات لتحقيقها ولكن لم تستمر، تأسيس وزارة للبحث العلمي تُعنى برعاية البحوث والدراسات العلمية؛ فالبحث العلمي والاهتمام به هو المعيار للتقدم والتخلف العلمي. ومن المشاريع المعرفية التي أطمح أن أراها واقعًا مجمع للترجمة والتعريب، تقوم فكرته ببساطة على ترجمة الكتب العلمية من كافة اللغات إلى اللغة العربية والعكس، فالترجمة العلمية سر من أسرار التقدم العلمي وهو الأمر الذي ركزت عليه الحضارة الإسلامية في الماضي والحضارة الغربية في الحاضر.

ومن المشاريع المعرفية التي اطمح أن أراها مجمع البيبلوغرافيا الإلكتروني الدولي، وتقوم فكرة هذا المجمع على جانبين رئيسين، الأول هو إنشاء فهرس وقاعدة بيانات لكل مكتبات العالم وما تتضمنه من بيانات الكتب والمخطوطات والمقالات وغيرها من مصادر المعلومات، بحيث تتيسر للباحث معرفة ماذا كُتب في الموضوع الذي يبحث فيه ومن كتب عنه وغير ذلك من المعلومات البيبلوغرافية التي يحتاجها الباحث. والجانب الثاني تابع للجانب الأول ولكنه يختلف من جهة محتواه، فهو ليس مجرد فهرس للكتب، بل أكثر من ذلك فهو يقدم لك كتبًا ومخطوطات ومقالات مصورة بصيغ إلكترونية متنوعة، تخدم وتيسر للباحث الوصول لها بضغطة زرعلى جهازه الذكي، وهذا كله لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التعاون العالمي في البحث العلمي أو عولمة البحث العلمي، ودعم تأسيس المجاميع والمراكز العلمية، وإحياء فكرة أوقاف المؤسسات العلمية وتشجيع ثقافة التبرع لها.

Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge