أرامكو..في ذاكرة قرية

أرامكو..في ذاكرة قرية

"1"

في زمنٍ مبكّر ترادفَ عندي، وعند جيلي ومَن هم أبكرُ مني وأبكر، اسمُ "أرامكو" مع اسمِ "الشركة". يتناوبان ويتبادلان التعريف والدلالة. فلا "شركة" إلا "أرامكو"، وعندما يُقال "أرامكو" فهي "الشركة" المتفرّدة بالصفة، وإليها انتسبَ جيلٌ كامل من الآباء والأجداد فالأبناء والأحفاد، وما يزالون في شجرتها الباسقة ربيعًا وظلالًا وسيرةً يانعة..يشغلون منها ركنًا مكينًا من حكاية التحوّل والتطوّر الاقتصادي والاجتماعي والثقافي منذ اكتشاف النفط وتدفّقه من البئر الأولى "بئر الدمام" وحتى مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي "إثراء".

 

"2"

كثيرًا ما أحببتُ أن أطالع صورة أرامكو وأثرها وتأثيرها من خلال مقطع صغير ناءٍ وبعيد، يقع في أقصى الأحساء حيث قريتي "الجشة" المحفوفة ـ في الذاكرة ـ بالمياه والحقول وتنفتح في شرقها على ميناء "العقير" لتكون الطريق إليه، وثمة معبر في القرية، في ظاهرها، يمتلك اسم "طريق الجافلة" يقود المسافرين إلى الميناء الخليجي "التاريخي" نحو رزقهم في مغاصات اللؤلؤ. عمي فهد رحمه الله (1913 ـ 2012م) كان واحدًا من هؤلاء الذين عرفوا "طريق الجافلة" وصاحَبَ البحرَ في مطلع شبابه، فشاركَ "غوّاصًا" في رحلات طلب اللؤلؤ. وحالما بدأت أرامكو في توظيف العمال، كان من الأوائل المنضمّين إليها هو ومجموعة من أبناء القرية الذين في غالبهم يعملون مزارعين في حقولهم. ومنذ ذلك التاريخ وقافلة عمّال القرية أخذت طريقها إلى "الشركة" ومقارّ عملها في مدنها الجديدة/ القديمة: الظهران، بقيق، رأس تنورة.

 

"3"

أضحت "أرامكو" وجهةً أولى ووحيدة لأبناء قريتي، ولم تكن هناك من عقبات ـ رغم أميّتهم ـ فقط القدرة على العمل، وتجاوز الفحص الصحي. في العام 1948م اُفتتحت "مدرسة الجشة الابتدائية" ليصبح المسار إلى "الشركة" وقتذاك يجمعُ الأميين والمتعلمين. ولاحقًا اقتصر القبول على المتعلّمين فحسب.

 

"4"

الأربعينيّات.. الخمسينيّات.. الستينيّات.. السبعينيّات (نصفها الأول)..أستطيع القول، خلال هذه العقود، إنّ أكثر من 90% من القوّة العاملة في القرية صارت تنتمي إلى "أرامكو". الأب وأبناؤه في "الشركة" تباعًا. عمي، مثلًا، وأبناؤه الستة. والدي واثنان من أخوتي (أنا عبرتُ عبورًا خفيفًا في العام 1979م). الجيران جميعهم (آباء وأبناء) بل أجسر على القول إنّ الحي بكامله الذي نسكنه "فريج جِبلة" يعملون بأرامكو، ومثلنا "فريج شرق" وإنْ بنسبةٍ أدنى، بدلالة بيوت أرامكو التي تسيّج القرية غربًا وشرقًا.

"5"

أنْ تعمل في "الشركة" يعني أن تكون بعيدًا عن قريتك؛ عن أهلك وتختلف المدة من عامل إلى آخر وبحسب نوعية العمل ومكانه (تتراوح من خمسة أيام إلى أسبوعين إلى شهر)، ويترتّب على هذا زحزحة أو خلخلة دور ربّ الأسرة الاجتماعي المتوقَّع منه، وأفترض أنه ليس دورًا واحدًا..عدّة أدوار تتصل بالبيت نفسه وبالزوجة وبالأولاد وبداخل البيت وخارجه..أدوار صغيرة وأدوار كبيرة..مهمات يسيرة وأخرى عسيرة؛ تتطلّب جميعها حضور الأب وعينه ويده. كانت ضريبة الغياب قاسية على الجميع لكنّ الوقتَ والتماثل الجماعي في الظرف جعل من "المشاركة الوجدانية" عاملَ تخفيفٍ وتفهّم، وبالتالي باتَ التعامل مع الوضع والتأقلم معه يُنظَر إليه وكأنه من طبيعة الأشياء. الأم أخذَتْ دورها، والأخ الأكبر أو حتى الأصغر ينال نصيبه من المسؤولية مبكّرًا، الجد أو من هو في مقام الجدّ سنًّا وقربًا وتعاطفًا أيضًا له نصيبٌ، وأريحية أيضًا في أداء ما يُطلب منه أو حتى يتبرّع بإنجاز ما تريده الأسرة عن طيبِ خاطر. في ذاكرتي الشخصية أن الوالدة رحمها الله تؤدّبنا بغضبها وبتوعّد أحدنا، إن أخطأ أو تقاعس عن أداء واجب، بإبلاغ الوالد: "هيّنْ. اصبرْ لين يجي أبوك؛ بأعلّمه عليك.. بأعلمه بكل شي سوّيته". أحيانًا يكفي هذا التهديد زاجرًا للنهوض من التقاعس، وأحيانًا تصل الرسالة كاملةً إلى الوالد بالتقاعس أو دونه (رحمهما الله). أمّا عن احتياجات المنزل اليومية، ومن ذاكرتي الشخصية أيضًا، فقد كان زوج عمتي ناصر المحسّن، رحمه الله، بمثابة الجد والأب الحاضر سواء في توفير "المقاضي" أو عندما يمرض واحد منّا. ما أزال في لفافة عطفه وأنا على كتفه يحملني إلى مدينة الهفوف لتلقّي العلاج.

 

"6"

هناك موظفون لم يتأقلموا، لا هم ولا أسرهم، مع الغياب عن القرية الذي لا تنقطع وتيرته إلا مع الإجازة السنوية المصروفة بكاملها للأسرة. هؤلاء فضّلوا النزوح عن القرية، بالانتقال والسكن حيث مقرّ العمل أو بالقرب منه في مدن (الدمام، الخبر، بقيق)، والأكثرية من هؤلاء اختاروا الدمام، وبنوا بيوتهم من أرامكو هناك، فاستعادوا الحياة المستقرة. كما أنّ بعضهم أصبح واجهة ترحيبية بأبناء الجشة الذين يقدِمون إلى الدمام، أو حتى يعملون في الظهران بعيدًا عن الأهل فتُقام لهم المناسبات والضيافة بخاصة في شهر رمضان المبارك.

 

"7"

في عطلة نهاية الأسبوع "الويكند" تزهر قريتنا. الحياة الخافتة تعلو نبرتُها. السكون المصاحب لنهارات الريف ولياليه يتبدّد. الباصات المقبلة مساء الأربعاء من مناطق أرامكو تحمل العمّال العائدين ومعهم لمعةُ الفرح والمتعةُ المنتظرة؛ لهم ولأهاليهم وللقرية بأكملها. الحركة تعود إلى تمامها في "الفرجان" و"السكيك"، وتذهب دكاكين القرية الصغيرة المعدودة إلى أوج انتعاشها الأسبوعي؛ بالجلسات التي تعمرها داخلها أو أمامها ينفضون تَعَبَ الأسبوع بالضحك وربما المزاح الثقيل والمقالب حتى الشطط ولعب "الزنجفة" و"الكيرم" فيما إبرة الراديو مضبوطة نهارًا على إذاعة البحرين وليلًا على محطة "هنا لندن". والصغار في البيوت أيديهم في القراطيس والكراتين تفتّش عن ذخيرة "الكانتين والكافتيريا" الأسبوعية ممّا لا يجدونه في متناولهم سائر الأيام على رفوف الدكاكين..تصيبهم تلك "الذخيرة" باللذة حتى الاستحلاب وعدم تفويت النتف الصغيرة من الكيكة أو الدونت أو السويت رول أو الشوكلاتة ذات الغلاف البنفسجي أو "الصلوم..الفول السوداني" ذي العلبة المعدنية الزرقاء أو "خد العروس" أو خيوط جوز الهند الصغيرة شديدة البياض، والحرص ألا تُهدر قطرة من "الفروزن جوز". يعيش الصغار "حالة ذوقية"، إن صحّ التعبير، ترفعهم خفافًا إلى معنى الترف والرفاه..معنى أصبح مطابقًا لـ "أرامكو" التي هي وقتذاك صارت المسطرة والمعيار والمكيال لكل ما يجعل الحياة في صيغةٍ مبهجة ومعاشة بشكلٍ ممتاز (المنزل، المستشفى، الراتب المجزي، السكن اللائق المريح، المواصلات.. والترفيه الذي يبلغ صورة الحلم لدينا ـ نحن الصغار، عندما نذهب إلى السينما مأسورين بالحركة واللون ومخطوفين بالغابات وبالهنود الحمر وبالمعارك التي تطيش فيها السهام وتنزل الفؤوس وتُقلَب الزوارق النهرية.. وقبل ذلك وبعد ذلك تشرُّب قِيَمِ الانضباط والنظام بصرامةٍ واستدامة). 

 

"8"

وعلى ذِكْر الترفيه، فإن عطلة نهاية الأسبوع هي الشعلة التي توقد النشاط في "نادي الخليج/ الروضة"؛ روّادًا وجمهورًا ولاعبي كرة القدم، يضطرب النادي بالحركة ليلَ نهار، والملعب يمتلئ باللاعبين عصر الخميس والجمعة، وتصبح التقسيمة في كامل النصاب بفريق الـ "أيه" وفريق الـ "بي". يتكوّن الفريق (المعتمد للمباريات مع أندية تجيء من الدمام والهفوف والقرى المجاورة) من موظّفي أرامكو. ربما نجد طالبًا أو طالبين ضمن قائمة الفريق وسرعان ما تخطو بهم الأيام إلى الوظيفة في أرامكو، طبعًا. والأمر ينطبق بحذافيره على ما تواضعنا على تسميته بـ "الفريق الذهبي" الذي صعد بالنادي من الدرجة الثانية إلى الأولى إلى الممتاز في زمن قياسي. هذا الفريق الذي لمع كالشهاب بعديد من النجوم كلّهم موظفون في أرامكو (وبعضهم يعمل في ظروف صعبة، إن في المناوبات أو الأماكن البعيدة) نحو: حمد الجايع، ناصر الصايل، عبدالعزيز الصايل، عادل الصايل، عبداللطيف الصقر، خالد الحمدان. والأمر نفسه في ألعاب أخرى ككرة الطائرة وكرة اليد. أسماء مستقرة في الذاكرة وأخرى يحضر منها الوجه ويغيب الاسم غير أنها كلها في خيمة "الشركة". نماذج للنجاح الوظيفي والرياضي تحتفظ بهم القرية في القلب. 

 

"9"

قلتُ إنني عبرتُ بأرامكو خفيفًا في العام 1979م (في وظيفة مأمور سجلات، من 5 فبراير إلى 18 أغسطس من العام نفسه)؛ عبرتُ إلى صورة مستقبلية أخرى من المهنةِ والحياة، لكنّ صلتي بعالم أرامكو لا تني تتجدّد بوساطةِ أكثر من نافذة، ربما أبهاها، الآن: "إثراء". وثمّة ما يذكّرني ـ لي ثلاثةُ أولاد في أرامكو ـ ويصِلُني بمكانٍ كنتُ فيه، وبأجيالٍ تستأنف تشكيلَ الصورة؛ حلمًا بعد حلم للذاتِ وللأهلِ وللوطن. 

Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge