شكِّل تأمين الغذاء في المستقبل قضية تؤرِّق حكومات العالَم والعلماء على حدٍّ سواء. فخلال القرن العشرين ازداد عدد سكان الأرض أربعة أضعاف، وتشير التقديرات إلى أن العدد سوف يصل إلى عشرة مليارات إنسان بحلول عام 2050م. وسوف تمثل هذه الزيادة الهائلة تحديًا كبيرًا وضغطًا متصاعدًا على قدرة الإنتاج الزراعي. الأمر الذي كان ولا بد من أن يدفع إلى تطوير تقنيات مبتكرة في تصنيع الغذاء غير الزراعة، منها تقنية مستقبلية تقوم على تصنيع الغذاء من الهواء.
تشغل الزراعة مساحات كبيرة من اليابسة، وتستهلك كميات هائلة من المياه. كما أن إنتاج الغذاء بواسطة الزراعة يسهم بنسبة عالية من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، وللمقارنة فإن هذه النسبة من الانبعاثات هي أكبر مما ينتجه قطاع النقل بكل ما فيه من سيارات وشاحنات وطائرات وقطارات.
أهمية البناء الضوئي
تحصل النباتات على غذائها بواسطة عملية تسمى البناء الضوئي، حيث تقوم النباتات بتحويل ضوء الشمس والماء وثاني أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الجوي إلى غذاء وتطلق الأكسجين كمنتج ثانوي لهذا التفاعل الكيميائي.
ألهمت هذه العملية علماء وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) خلال الستينيات من القرن الماضي، لبحث فكرة إطعام روَّاد الفضاء في مهمات الفضاء الطويلة مثل السفر إلى المريخ. وكانت واحدة من الأفكار الواعدة تصنيع الغذاء عن طريق ثاني أكسيد الكربون الذي ينتجه روَّاد الفضاء، لكن ليس بواسطة النباتات بل عن طريق ميكروبات صغيرة وحيدة الخلية قادرة على حصد ثاني أكسيد الكربون لإنتاج كميات وفيرة من البروتين المغذي على شكل مسحوق عديم النكهة، كما يمكن استخدام المادة في صنع الأطعمة المألوفة لدينا.
وخلافًا لما هو الحال في عالم النبات، فإن هذه الميكروبات لا تستخدم الضوء كما يحدث في عملية البناء الضوئي التي تستخدمها النباتات للحصول على الغذاء، أي لأنها قادرة على النمو في الظلام. تسمى هذه البكتريا (هيدروجينوتروف) وهي تستخدم الهيدروجين كوقود لإنتاج الغذاء من ثاني أكسيد الكربون. فعندما يُنتج روَّاد الفضاء ثاني أكسيد الكربون، تلتقطه الميكروبات، ويتحوَّل مع مدخلات أخرى إلى غذاء غني بالكربون. وبهذه الطريقة سوف نحصل على دورة كربون مغلقة الحلقة.
بعد مرور أكثر من نصف قرن على أبحاث ناسا، تعمل حاليًا عدة شركات في قطاع البيولوجيا التركيبية من ضمنها إير بروتين (Air Protein) وسولار فودز (Solar Foods) على تطوير جيل جديد من المنتجات الغذائية المستدامة، من دون وجود بصمة كربونية. ولن تقتصر هذه المنتجات الغذائية على روَّاد الفضاء فحسب، بل سوف تمتد لتشمل جميع سكان الأرض، وسوف تُنتَج في فترة زمنية قصيرة، بدلًا من الشهور، ومن دون الاعتماد على الأراضي الزراعية. وهذا يعني الحصول على منتجات غذائية بشكل سريع جدًا. كما سيصبح من الممكن تصنيع الغذاء بطريقة عمودية من خلال هذه الميكروبات، بدلًا من الطريقة الأفقية التقليدية الشبيهة بتقنية الزراعة العمودية الحديثة. وهذا يعني توفير منتجات غذائية أكبر من المساحة نفسها.
عالَم مختلف
في الوقت الحالي، تدرس عدَّة شركات هذه الميكروبات بشكل أعمق، وتستزرعها من أجل الحصول على الغذاء. ففي عام 2019م، أعلن باحثون في شركة (Air Protein) الأمريكية نجاحهم في تحويل ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء إلى لحوم صناعية مصنوعة من البروتين، التي لا تتطلَّب أي أرض زراعية، بل هي معتمدة بشكل أساس على الهواء.
إذ استخدم هؤلاء الباحثون الهواء والطاقة المتجدِّدة كمدخلات في عملية مشابهة للتخمير، لإنتاج بروتين يحتوي على الأحماض الأمينية التسعة الأساس وغني بالفيتامينات والمعادن، كما أنه خالٍ من الهرمونات والمضادات الحيوية والمبيدات الحشرية ومبيدات الأعشاب. وتم تصنيع اللحوم بأنواع عديدة بما فيها الدواجن والأبقار والمأكولات البحرية، من دون حصول انبعاثات كربونية، على عكس تربية الأبقار التي تسهم في انبعاث غاز الميثان أحد غازات الاحتباس الحراري.
كما أن الشركة الفنلندية (Solar Foods) طوَّرت تقنية لإنتاج البروتين من الهواء، حيث تبدأ العملية بتقسيم الماء إلى مكوناته الهيدروجين والأكسجين عن طريق الكهرباء. فالهيدروجين يوفِّر الطاقة للبكتريا لتحويل ثاني أكسيد الكربون والنيتروجين الموجودين في الهواء إلى مادة عضوية غنية بالبروتين بشكل أكفأ من نمو النباتات باستخدام البناء الضوئي. وهذا البروتين يشبه دقيق القمح وقد أطلق عليه اسم «سولين» (Solein).
وتقوم الشركة حاليًا بجمع البيانات حول المنتج الغذائي لتقديمه إلى الاتحاد الأوروبي بهدف الحصول على ترخيص غذائي، كما أنها تخطط لبدء الإنتاج التجاري في العام 2021م. وقد أوضحت الشركة أنها مهتمة بإنتاج أطعمة صديقة للبيئة من خلال استخدام المواد الأساس: الكهرباء وثاني أكسيد الكربون، وهذه الأطعمة سوف تجنبنا الأثر السلبي البيئي للزراعة التقليدية الذي يشمل كل شيء من استخدام الأرض والمياه إلى الانبعاثات الناتجة من تسميد المحاصيل أو تربية الحيوانات.