أول مشاريع المملكة غير التقليدية يحقق أهدافه المرجوة..

الغاز الطبيعي يمدُّ الحدود الشمالية بالطاقة

الغاز الطبيعي يمدُّ الحدود الشمالية بالطاقة

على عمق مئات الأمتار تحت رمال صحراء النفود الصخرية وآفاقها الشمالية الرحبة، تكمن كميات ضخمة من الغاز الحلو.

وقبل ثلاثة أعوام، كانت أرامكو السعودية قد عزمت على تطويع هذا الكنز من الطاقة، الذي يغط في سبات عميق مُلتحفًا بأرض البوابة القديمة لشبه الجزيرة العربية، على بُعد بضعة كيلومترات من الحدود الشمالية للمملكة.

ومن خلال الاستخراج الناجح للغاز من بين أركانه ذات الحجر الرملي بفعل الضغط الطبيعي، وبكميات تجارية، نجح مشروع أرامكو السعودية الجديد، شمال المملكة، في بدء تشغيل أولى مرافق الغاز غير التقليدي في المملكة بتكلفة مجدية.

طموحاتٌ وثَّابة

وقال مدير إدارة تطوير أعمال الغاز غير التقليدي بالوكالة، الأستاذ مازن الخيال، إن التطلعات العالية والأهداف الكبيرة، التي رصدها هذا المشروع، أسفرت عن تحقيق معدلات إنتاج تاريخية لغاز البيع خلال فترة ذروة الطلب في الصيف الماضي.

وأضاف الخيال: "خلال تلك الفترة، عمل المشروع بموثوقية استثنائية، ووفق أعلى المعايير البيئية في الشركة، لتوفير الوقود النظيف لمحطة الكهرباء في وعد الشمال، التي تعمل بتقنية الدورة المركبة ذات الكفاءة العالية في استهلاك الطاقة".

وقال الخيال: "تُسهم أرامكو السعودية في ازدهار منطقة الحدود الشمالية من المملكة عبر توفير الطاقة النظيفة لخدمة سكان المملكة وشركاتها واقتصادها المزدهر، الذي يشهد نموًا متسارعًا، بالإضافة إلى خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة".

الاستثمار في المجتمع المحلي

وعن مشروع شمال المملكة بالتحديد، قال الخيال إن الشركة استثمرت بشكل كبير في المجتمعات المحلية من خلال استقطاب شباب المنطقة لتدريبهم وتوظيفهم من مختلف مدنها ومحافظاتها، بما فيها طريف وعرعر والجوف.

وقال الخيال: "أكثر من 90% من موظفي أرامكو السعودية في هذا المشروع هم من سكان المنطقة؛ ويعكس الرقم القياسي الذي حققناه مؤخرًا في إنتاج غاز البيع، مع التزامنا بمعايير الأمان والكفاءة، قيمة الاستثمار الكبير للشركة في تدريب الموظفين المحليين".

وأوضح الخيال أن الشركة قدَّمت لموظفيها برامجًا للتدريب الفني والتدريب على السلامة، لتمكينهم من استخدام المعدات ذات التقنية العالية، مثل أحدث مولدات الكهرباء باستخدام الغاز، وضواغط الهواء والغاز، وتقنيات الطاقة الشمسية المتجددة.

صنع المستقبل للموارد غير التقليدية

ويشكِّل الغاز غير التقليدي مصدرًا مهمًا للطاقة في مستقبل المملكة، فهو يمثِّل مصدرًا لوقود أنظف لتوليد الطاقة، ولقيمًا يُستخدم في صناعة البتروكيميائيات.

واليوم، يمضي أول مشروع للغاز غير التقليدي في المملكة نحو تحقيق أهدافه المرجوة، حيث يوفِّر طاقة أنظف، ويُسهم في تنمية اقتصاد محلي مزدهر، ويؤدي إلى اكتساب خبرات أكبر في مجال الموارد غير التقليدية في الشركة. وحتى فترة قريبة نسبيًا، كان الفكر السائد هو أن استخراج الغاز غير التقليدي أمرٌ مكلف ومعقَّد جدًا.

وحاليًا، تركِّز الجهود التي تبذلها الشركة في مجال الموارد غير التقليدية على ثلاث مناطق، هي شمال المملكة وجنوب الغوار وحوض الجافورة.

وفي شهر فبراير الماضي، حصلت الشركة على موافقات الجهات التنظيمية لتطوير حقل الجافورة للغاز غير التقليدي، كأكبر حقل للغاز غير المصاحب في المملكة حتى اليوم، وعلى مساحة تبلغ أبعادها 170 و 100 كيلومتر، واحتياطيات تُقدَّر بنحو 200 تريليون قدم مكعبة قياسية من الغاز الخام الغني بالميثان.

غازٌ بجودة عالية

وبواسطة الأعمال التقليدية، لا يمكن استكشاف أو إنتاج الغاز غير التقليدي من الهياكل الصخرية الأقل مسامية والأكثر كثافة، مثل صخور السجيل، أو الرمال قليلة المسامية والنفاذية.

وفي شمال المملكة، تتركز تجمعات الغاز بشكل عام في قنوات الرمال. وعلى طول هذه القنوات، تنتشر كميات من الرمال المسامية، تُسمى مواقع الغاز الحلو، وهي رمال مشبعة بكميات تجارية من الغاز الطبيعي، وتُحيط بها صخور أقل نفاذية ومسامية.

ومن المعروف أن الغاز في شمال المملكة أحد المواد الهيدروكربونية من الدرجة الممتازة، فهو حلو ولا يتطلب غير الحد الأدنى من المعالجة، حيث لا يحتوي على كبريتيد الهيدروجين، كما أنه جاف نسبيًا فلا يحتوي على هيدروكربونات سائلة تتطلب الإزالة، والسائل الوحيد الذي يتطلب الفصل عن هذا الغاز النقي هو الماء.

الإنتاج عبر مرافق فرعية

وفي حين قد تبدو مرافق الإنتاج شمال المملكة بنظرة خاطفة مشابهة لعديد من مرافق الإنتاج البرية التقليدية التابعة لأرامكو السعودية، إلا أن نظرة عن كثب على الأعمال الميدانية ستكشف عن فروق بينهما. فهذا الغاز العنيد لا يخرج من تلقاء نفسه كالغاز التقليدي، بل إنه يتطلب جهدًا للوصول إليه واستخراجه. وهذا الأمر يتحكَّم بشكل كبير في تحديد تصاميم ومواصفات البنية التحتية الخاصة باستخراج الغاز ومعالجته.

وبدلًا من الاعتماد على مرفق معالجة مركزي واحد، يوجد خمسة مرافق متفرَّقة وأصغر حجمًا، تُدار من خلالها أعمال فصل الغاز في شمال المملكة، وقد أُطلق عليها حديثًا اسم مرافق المعالجة الفرعية.

ويوضح الناظر الإداري لقسم أعمال تشغيل الموارد غير التقليدية في شمال المملكة، سلطان الشهري، أن الغاز يُستخرج بشكل طبيعي إلى السطح بفعل ضغطه الخاص.

"إرسال الغاز إلى نظام تقليدي نموذجي يتكون من مرفق معالجة مركزي واحد، سيتطلَّب زيادة ضغطه، مما يعني تكبد مزيد من التكاليف؛ وبالتالي فإن مرافق المعالجة الفرعية المتعددة هي الحل المناسب من ناحية اقتصادية لمشروع شمال المملكة". سلطان الشهري

كما أن مرافق المعالجة الفرعية ومرافق الآبار، التي يصل عددها إلى 50 بئرًا، ذات تصميم منفصل الوحدات، مما يعني أنها قابلة للنقل لإعادة استخدامها في موقع آخر. ويُشير الشهري إلى أن هذا التصميم منفصل الوحدات، الذي تتميَّز به البنية التحتية للمعالجة في شمال المملكة، يدعم الاقتصاد الدائري حيث يُعاد استخدام الموارد باستمرار بدلًا من إهدارها.

روحٌ رائدة تقود الأعمال

في حماس يكسوه التواضع، ينهمك المشغلون العاملون في الخطوط الأمامية شمال المملكة في العناية بمرافق المعالجة الخمسة المؤتمتة بدرجة عالية، وبالآبار المرتبطة بها. ولتشغيل هذه المرافق، دُرِّبت الأيدي العاملة شمال المملكة على احتمالات تشغيل مختلفة.

المشغل الميداني، عبدالإله العتيبي، كان قد انضم للعمل في مشروع شمال المملكة في عام 2017م، وهو يقطع مسافة تُقدَّر بحوالي 200 كيلومتر في يوم عمل عادي، على طرق منزلقة ذات أسطح صخرية حادة، تُصبح موحلة عندما يهطل المطر.

العتيبي، الذي كان يعمل سابقًا في معمل إنتاج الغاز غير التقليدي في الحوية، وصف تجربة العمل شمال المملكة بالتجربة المثيرة، قائلًا بكل فخر: "كنت هنا منذ البداية، وشهدت بناء كل شبر من هذه الأنابيب".

"حينما تبتعد عن أُسرتك، فإنك تواجه تحديًا لتطوير ذاتك، وشمال المملكة يُعدُّ فرصة جيدة للعمل مع الموارد غير التقليدية، التي ستصبح ذات أهمية كبيرة في المستقبل". عبدالإله العتيبي

توليد الكهرباء لمعالجة الغاز

في مشروع شمال المملكة، يوجد خمسة مرافق فصل صغيرة متفرقة، يُطلق على كل منها اسم "مرفق المعالجة الفرعية"، وتتمثَّل وظيفتها الرئيسة في فصل الماء عن الغاز من خلال شبكة تجفيف خاصة بها، ليتم تبخير الماء المفصول في بركة ترسيب.

ولأن منطقة الحدود الشمالية في المملكة منطقة نائية لا توجد فيها شبكات كهرباء محلية لتوليد الطاقة للمرافق، فإن كل مرفق من هذه المرافق الخمسة يعتمد على نفسه في إنتاج الطاقة التي يحتاجها، عبر مولد يعمل بالغاز لتوليد الكهرباء في الموقع، كما تقوم ألواح الطاقة الشمسية بإمداد أنظمة التحكم بالطاقة.

مشرف فريق التشغيل الميداني، عبدالعزيز الرويلي، المقيم في جنوب طريف، عمل لمدة ثماني سنوات في منطقة السفانية، ثم انضم إلى فريق مشروع شمال المملكة في نوفمبر 2019م. ويقول الرويلي إن مواقع المشروع متفرقة جغرافيًا ويوجد فيها عديد من الآبار، مما يتطلب من المشغلين قطع مسافات طويلة. ويضيف الرويلي: "عملية معالجة الغاز الحلو سهلة نسبيًا، إذ تتطلب أسلوب معالجة واحد باستخدام شبكة التجفيف".

ويقول الرويلي: "التقدم التقني يعني أن أعمال إنتاج الغاز غير التقليدي أصبحت الآن أقل تكلفة؛ فالغاز غير التقليدي هو المستقبل، فهو مصدر طاقة جديد يتميز بمعدل انبعاثات أقل".

 "من الرائع أن يكون لدينا مرفق إنتاج تابع لأرامكو السعودية هنا في المنطقة الشمالية من المملكة". عبدالعزيز الرويلي

إمداد العملاء بالطاقة

هدأة السكون تُخيِّم على منطقة أجهزة قياس تدفق الغاز في مشروع شمال المملكة، ولا يشق ذلك السكون سوى هدير غاز البيع عالي الضغط، وهي يندفع اندفاع السيل في أنابيب قُطرها ما بين 16 و30 بوصة، حيث يقطع رحلة مباشرة إلى مدينة وعد الشمال الصناعية في طريف، لإمداد العملاء بطاقة أنظف.

ويقول المشغل الميداني، علي العسيري، الحاصل على دبلوم في الهندسة الكيميائية، والمتدرب لمدة عام في مركز التدريب الصناعي في رأس تنورة: "يُنقل الغاز في الأنبوب الأكبر إلى الشركة السعودية للكهرباء، فيما ينقل الأنبوب الأصغر الغاز إلى شركة معادن لإنتاج الفوسفات في وعد الشمال".

العسيري هو أحد سكان طريف، وقد عمل مشغلًا ميدانيًا لمدة عامين، وهو يفخر بكونه جزءًا من أول مشروع غير تقليدي في المملكة، قائلًا: "أقوم بإجراء فحوصات روتينية على مرافق المعالجة الفرعية، واختبارات قياس لتركيز الغاز، كما أبحث عن أي علامات غير معتادة، وأقوم ببعض الترتيبات مثل تنظيف البنية التحتية والمحركات مما يعلق بها من رمال". ويُعرب العسيري عن امتنانه للفرص التي تمنحها أرامكو السعودية لمواطني طريف، آملًا أن تتعزَّز هذه الفرص أكثر في المستقبل.

مقاومة قسوة المناخ

تسود الظروف المناخية القاسية منطقة شمال المملكة، إذ تتسم بصيف حار وطويل، وشتاء بارد لا يخلو من الصقيع مع احتمال هطول الثلوج. ويشرح المشغل الميداني، عبدالمجيد العنزي، كيف يمنع استخدام معدات حقن الميثانول، الموجودة في كل بئر من آبار المشروع، درجات الحرارة المنخفضة في الشتاء من بلورة الغاز عبر تكون مركبات الهيدرات، قائلًا إن غرفة التحكم المركزية تراقب درجة حرارة الغاز.

وعمل العنزي، الذي قدم من عرعر، مركز منطقة الحدود الشمالية، لمدة عامين ضمن مشروع شمال المملكة، كما عمل قبل ذلك في العثمانية لعامين آخرين، وحصل على التدريب كمشغل لمدة 18 شهرًا في مركز التدريب الصناعي بالدمام.

وعندما سُئل العنزي عما إذا كان يرغب في العمل في مشروع شمال المملكة، رحب بهذه الفكرة. يقول العنزي: "كانت فرصة لي لأكون قريبًا من المنزل مع زوجتي وأُسرتي، وأعمل في مشروع يعزِّز الاقتصاد المحلي ويجعل المنطقة وخدماتها أفضل من ذي قبل، ويُسهم في توليد طاقة أنظف". وبسؤاله عما سيفعله إذا ما طلبت منه أرامكو السعودية العمل في منشأة أخرى، أجاب على الفور:

"بالطبع سأذهب، إنه واجبي". عبدالمجيد العنزي

عينٌ رقميةٌ على الأعمال

التقنية هي المفتاح لاستخراج الغاز غير التقليدي من مكامنه. وتعمل مرافق المعالجة الخمسة في مشروع شمال المملكة والآبار المرتبطة بها عن طريق أنظمة مؤتمتة إلى حد كبير، فهناك عديد من المجسات الضوئية المركبة بصفة دائمة، حيث تعمل كعيون إلكترونية على الصمامات والمضخات وغيرها من مكونات البنى التحتية في المشروع.

وترسل هذه العيون كمًا كبيرًا من بيانات المراقبة الإلكترونية إلى غرفة التحكم المركزية، حيث يعمل على مراقبتها مشغل وحدة التحكم، تركي المغامسي ،الذي بدأ مهنته كمشغل ميداني لمدة 18 شهرًا، ليعمل بعد ذلك مشغلًا لوحدة التحكم منذ 14 شهرًا.

يقول المغامسي: "يتعلم المرء كيف تعمل الأشياء من خلال العمل في المرافق ميدانيًا، حيث يرى الصمامات والمحركات ويقوم باستكشاف الأعطال وإصلاحها". ويضيف المغامسي: "غرفة التحكم مسؤولية كبيرة، فمن خلالها يمكن تشغيل المرفق أو إيقاف تشغيله، وفتح الصمام الخاطئ على سبيل المثال، سيؤدي إلى حدوث خطأ. كما أن المحافظة على سلامة المشغلين تمثل جزءًا مهمًا من وظيفتي".

المغامسي وُلد في طريف، وقد درس ليكون متدربًا كهربائيًا متدرجًا، قبل التحاقه بمركز التدريب الصناعي في رأس تنورة لمدة 18 شهرًا. ويقول المغامسي:

"تجلب أرامكو السعودية الازدهار إلى طريف عبر مشروع شمال المملكة". تركي المغامسي
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge